الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون
23/12/2002
هذه الايه الكريمه جاءت في مقدمات سوره البقره، وهي سوره مدنيه، واياتها286 بعد البسمله، وعلي ذلك فهي اطول سور القران الكريم علي الاطلاق، واول سوره بعد فاتحه الكتاب في ترتيب سور المصحف الشريف، وقد عظمها رسول الله صلي الله عليه وسلم تعظيما كبيرا فقال ان الشيطان ينفر من البيت الذي تقرا فيه سوره البقره.
ويدور المحور الرئيسي لسوره البقره حول عدد من الاحكام الشرعيه، والقضايا التعبديه، والضوابط الاخلاقيه والسلوكيه، والركائز العقديه التي يمكن ايجاز الخطوط العريضه لها في النقاط الاساسيه التاليه:
(1) الايمان بالله( تعالي) وحده( بغير شريك ولا شبيه ولا منازع)، والايمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر.
(2) هذا الايمان يقتضي التسليم بوحده الرساله السماويه التي انزلها ربنا( تبارك وتعالي) علي فتره من الرسل، وختمها واتمها، واكملها في القران الكريم، الذي تعهد ربنا( سبحانه وتعالي) بحفظه فحفظ حفظا كاملا في لغه وحيه علي مدي اربعه عشر قرنا والي ان يرث الله( تعالي) الارض ومن عليها، ليبقي مصدرا لهدايه الناس كافه حتي يوم الدين.
(3) الايمان بوحده الجنس البشري دون تمييز عرقي او عنصري او علي اي اساس اخر لان البشريه كلها ينتهي نسبها الي ادم وحواء( عليهما من الله السلام).
(4) الالتزام بركائز الدين من الشهادتين، واقام الصلاه، وايتاء الزكاه، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا.
(5) عدم التفرقه بين رسل الله، وترك التفضيل بينهم لله، وتتويج الايمان بهم جميعا بالايمان بالنبي الخاتم والرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبدالله( صلي الله عليه وسلم)، وبالرساله الخاتمه التي اوحيت اليه والتي حفظت في القران الكريم وفي سنته الشريفه.
(6) الايمان بضروره تلقي الدين عن طريق القناعه العقليه والقلبيه الكامله، والتسليم بان دين الله مبني علي اليسر، ورفع الحرج، وان من اصوله الثابته انه: لا اكراه في الدين.... (البقره:256).
(7) التسليم بان القتال مشروع في الاسلام لدفع المظالم، وللدفاع عن الارض، والعرض، وعن النفس والمال والولد والاهل، وعن الدين ومقدساته، ولتامين سياده عدل الله في الارض، ولضمان حريه التدين، وللمحافظه علي كرامه الانسان من اي جور او طغيان، ولذلك تدعو سوره البقره الي الجهاد في سبيل الله دون اعتداء، والي تعظيم منازل الشهداء، والمجاهدين، والي تقدير مقامات الصابرين في الباساء والضراء، ومقامات الموفين بعهودهم اذا عاهدوا، والي غير ذلك من القيم ومن مكارم الاخلاق.
(8) الايمان بحتميه الاخره وبضرورتها، والتحذير من فجائيه وقوعها، واهوالها، والعمل علي مواجهتها، وفي ذلك جاء قول الله( تعالي): واتقوا يوما ترجعون فيه الي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون.( البقره:281) وهو اخر ما نزل من القران الكريم.
(9) الدعوه الي التامل بعين البصيره في ايات الله العديده المنتشره في الانفس والافاق لانها هي كتاب الله المنظور كما ان القران الكريم هو كتابه المقروء.
(10) فصلت سوره البقره احكام الاسره من الزواج، والطلاق، والعده، والرضاع وغيرها.
(11) تدعو سوره البقره في مواضع عديده منها الي الانفاق في سبيل الله، والي الاحسان الي الخلق بصفه عامه، وتدعو الي ايثار الخير ونبذ الشر، كما تدعو الي العمل الصالح المنطلق من الايمان الصادق بالله، والي الاستعانه علي كل جليل من الامور بالصبر والصلاه، والي ترك العصبيات العرقيه والاقليميه الضيقه، والي نبذ الموروثات المغلوطه، والتقليد الاعمي، والي التمسك بتحكيم العقل من اجل الوصول الي سلامه الحكم في كل امر من امور الحياه، كما تنعي السوره الكريمه علي كل من يدعو الي الحق وفضائل الاعمال ثم ينسي نفسه، وتحذر بشده من التعامل بالربا وتهدد الواقعين فيه بحرب من الله ورسوله، كما تحذر من كتم الشهاده، وتوكد المحافظه علي حقوق الاخرين بكل وسيله مشروعه، وتحذر من ديون العباد، وتضع الشروط الواجبه لحفظ حقوق الاخرين فيها.
(12) مايزت سوره البقره في مواقع عديده منها بين صفات كل من المتقين والمنافقين، وضربت نماذج لكل منهم، والمحت الي نعيم المتقين في الجنه، والي عذاب المنافقين من الكفار والمشركين في النار، وصورت جانبا من ذلهم وحيرتهم يوم القيامه، وحذرت المومنين من موالاتهم او الركون اليهم في الدنيا، كما حذرت من متابعه الشيطان الرجيم واعوانه وجنده.
(13) وللتاكيد علي هذه المعاني والقيم المحت سوره البقره لقصه ابينا ادم( عليه السلام) وزوجه، والي جوانب من قصه نبي الله ابراهيم( علي نبينا وعليه السلام)، واشارت الي اختلاف اتباع نبي الله عيسي( عليه السلام) من بعده بقول الحق( تبارك وتعالي):... ولكن اختلفوا فمنهم من امن ومنهم من كفر... ( البقره:253).
كما تحدثت سوره البقره عن واقعه تحويل القبله، وعن قرار الله( تعالي) بجعل امه الاسلام امه وسطا ليكونوا شهداء علي الناس، ويكون الرسول عليهم شهيدا.
(14) وختمت سوره البقره بدعاء الي الله( تعالي) يهز القلوب والعقول، ويحرك الضمائر والمشاعر حيث تقول: ... ربنا لا تواخذنا ان نسينا او اخطانا، ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته علي الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، انت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين
(البقره:286).
من الايات الكونيه في سوره البقره
(1) التاكيد علي ان القران الكريم كتاب لا ريب فيه والبحث العلمي يوكد ذلك في كل كلمه وحرف واشاره وردت فيه( الايه2).
(2) الاشاره الي امراض القلوب ومنها الخوف والوسوسه والشك في زمن لم يكن معروفا لاحد شيء من تلك الامراض( الايه10).
(3) التمييز بين كل من الضياء والنور والنار، والمقابله بين الظلمات والنور وهي من الحقائق العلميه التي لم يدركها الانسان الا موخرا (الايه17).
(4) ذكر الصيب من السماء وهو المطر الغزير الذي يكثر هطوله بالليل، والمصحوب بالرعد والبرق والصواعق والعواصف وهو تجمع فريد من الظواهر الكونيه التي لم تدرك الا موخرا. ( الايه19).
(5) الاشاره الي خطف البصر عن طريق البحلقه في ضوء البرق، وتقديم السمع علي البصر (الايه20).
(6) الاقرار بان الله( تعالي) هو خالق الخلق جميعا (الايه21).
(7) الاشاره الي فرش الارض وتمهيدها، وبناء السماء واحكامها وحبكها، وانزال الماء من السحاب، واخراج مختلف الثمرات بواسطته، والنهي عن الشرك بالله تعالي( الايه22).
(8) ضرب المثل بالبعوضه وما فوقها وهي من الحشرات المميزه في بناء جسدها. (الايه26).
(9) التاكيد علي ان الموت سابق للحياه ولاحق بها، وان الله( تعالي) خلق ما في الارض جميعا ثم استوي الي السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم( الايه29).
(10) التاكيد علي واقعه فلق البحر لنبي الله موسي( علي نبينا وعليه السلام) وفرقه الي فرقتين، ونجاه موسي ومن معه، وهلاك فرعون وجنده وهي من حقائق التاريخ( الايه50).
(11) التاكيد علي انفجار اثنتي عشره عينا من عيون الماء بضربه من عصا موسي( عليه السلام) علي الضفه الشرقيه من خليج السويس في منطقه تعرف اليوم باسم عيون موسي( الايه60).
(12) الاشاره بالمشرق والمغرب الي الكون كله ( الايتان142،115).
(13) اتخاذ المسجد الحرام قبله للمسلمين والعلم يوكد مركزيته بالنسبه لليابسه (الايات150،149،144).
(14) الاشاره الي خلق السماوات والارض، واختلاف الليل والنهار، والي الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، والي انزال الماء من السماء، واحياء الارض به بعد موتها، وبث الدواب من كل نوع فيها، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والارض وجعل ذلك كله ايات لقوم يعقلون (الايه164).
(15) التاكيد علي حقيقه ان الاهله هي مواقيت للناس والحج( الايه189).
(16) التاكيد علي ما في كل من الخمر والميسر من اثام تفوق اي نفع يمكن ان يجتني من ورائهما (الايه219).
(17) التاكيد علي ما في المحيض من اذي (الايه222).
(18) التاكيد علي حقيقه ان الجنه( اي الحديقه ذات الاشجار الكثيفه الملتفه علي بعضها البعض) بالربوه العاليه اذا اصابها الوابل( اي المطر الشديد) اتت اكلها ضعفين، وهو لا يضرها باحتمال اغراقها بالسيول لارتفاعها وسرعه انحسار الماء عنها بعد اخذ كفايتها منه، وان لم يصبها وابل فان الطل( اي المطر الخفيف او الرذاذ) يكفيها لري نباتاتها وطيب عطائها، والمقصود ان هذه الجنه تزكو وتزدهر وتثمر كثر المطر عليها او قل، وهو تشبيه قائم علي حقيقه علميه راسخه، تصف انفاق الصالحين ابتغاء مرضاه الله وتثبيتا من انفسهم بانه يزكو عند الله ويطيب، زاد قدره ام قل كما تزكو الجنه بالربوه زاد المطر عليها او قل.
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه مستقله، ولذلك فسوف اقصر حديثي هنا علي الايتين22،21 من سوره البقره واللتين تتحدثان عن خمس قضايا محدده هي:
(1) الاقرار بان الله تعالي هو خالق الخلق جميعا.
(2) فرش الارض وتمهيدها.
(3) بناء السماء واحكامها وحبكها.
(4) انزال الماء من السماء.
(5) اخراج الثمرات بواسطه الماء.
وختام ذلك ياتي النهي عن الشرك بالله تعالي، نهيا قاطعا جازما.
وقبل الدخول الي شرح كل واحده من هذه القضايا اري لزاما علي استعراض اقوال عدد من كبار المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح هاتين الايتين الكريمتين.
من اقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون* الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون
( البقره:22،21).
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما نصه: في بيان وحدانيه الوهيته بانه هو المنعم علي عبيده باخراجهم من العدم الي الوجود، واسباغه عليهم النعم الظاهره والباطنه، بان جعل لهم الارض فراشا: اي مهدا كالفراش، مقرره موطاه مثبته بالرواسي الشامخات;( والسماء بناء) وهو السقف، كما قال تعالي:( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن اياتها معرضون);( وانزل من السماء ماء) والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم اليه; فاخرج لهم به من انواع الزروع والثمار رزقا لهم ولانعامهم. ومضمونه: انه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق ان يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون....
واضاف: قال ابن عباس، قال الله تعالي:( يا ايها الناس اعبدوا ربكم) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، اي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. وعنه ايضا في تفسير قوله تعالي:( فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون): اي لا تشركوا بالله غيره من الانداد التي لا تنفع ولا تضر( وانتم تعلمون) انه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم ان الذي يدعوكم اليه الرسول( صلي الله عليه وسلم) من التوحيد هو الحل الذي لا شك فيه.
واضاف كذلك: قال ابو العاليه:( فلا تجعلوا لله اندادا) اي عدلاء شركاء، وقال مجاهد في تفسير قوله تعالي:( فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون) قال: تعلمون انه اله واحد في التوراه والانجيل.
واضاف ابن كثير عددا من الاحاديث النبويه الشريفه والروايات في معني هذه الايه الكريمه تويد ما ذهب اليه في تفسيرها( رحمه الله رحمه واسعه).
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعه) تفسيرا لهاتين الايتين الكريمتين ما نصه: انه النداء الي الناس كلهم لعباده ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم. ربهم الذي تفرد بالخلق، فوجب ان ينفرد بالعباده... وللعباده هدف لعلهم ينتهون اليه ويحققونه:( لعلكم تتقون)... لعلكم تصيرون الي تلك الصوره المختاره من صور البشريه، صوره العابدين لله، المتقين لله، الذين ادوا حق الربوبيه الخالقه، فعبدوا الخالق وحده، رب الحاضرين والغابرين، وخالق الناس اجمعين، ورازقهم كذلك من الارض والسماء بلا ند ولا شريك.
(الذي جعل لكم الارض فراشا) وهو تعبير يشي باليسر في حياه البشر علي هذه الارض، وفي اعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجا وافيا كالفراش... والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما الفوه، ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الارض ليمهد لهم وسائل العيش، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحه والمتاع، ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم علي هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمانينه. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياه في هذا الكوكب ما قام هولاء الاناسي في غير البيئه التي تكفل لهم الحياه. ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق علي الناس ان يلتقطوا انفاسهم حتي لو قدرت لهم الحياه.
(والسماء بناء)... فيها متانه البناء وتنسيق البناء.....
(وانزل من السماء ماء، فاخرج به من الثمرات رزقا لكم)... والماء النازل من السماء هو ماده الحياه الرئيسيه للاحياء في الارض جميعا... وقصه الماء في الارض، ودوره في حياه الناس، وتوقف الحياه عليه في كل صورها واشكالها... كل هذا امر لا يقبل المماحكه، فتكفي الاشاره اليه، والتذكير به، في معرض الدعوه الي عباده الخالق الرازق الوهاب.
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الاسلامي: وحده الخالق لكل الخلائق( الذي خلقكم والذين من قبلكم)، ووحده الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياه وللانسان:( الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم) فهذا الكون ارضه مفروشه لهذا الانسان، وسماوه مبنيه بنظام، معينه بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:( فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون).. تعلمون انه خلقكم والذين من قبلكم، وتعلمون انه جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء، وانزل من السماء ماء، وانه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض، فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق!.
والانداد التي يشدد القران في النهي عنها لتخلص عقيده التوحيد نقيه واضحه، قد لا تكون الهه تعبد مع الله علي النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون( ولا يزالون).. فقد تكون الانداد في صور اخري خفيه; قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في اي صوره، وفي الخوف من غير الله في اي صوره، وفي الاعتقاد بنفع او ضر من غير الله في اي صوره....، وضرب عددا من النماذج ثم اضاف: هكذا كان سلف هذه الامه ينظر الي الشرك الخفي والانداد مع الله.. فلننظر بحق اين نحن من هذه الحساسيه المرهفه، واين نحن من حقيقه التوحيد الكبيره!!!.
* وجاء في كل من تفسير الجلالين، وصفوه البيان لمعاني القران، والمنتخب في تفسير القران الكريم وصفوه التفاسير( جزي الله كاتبيها خيرا) كلام مشابه لا حاجه بنا لاعادته.
الدلاله العلميه للايه الكريمه
اولا: في قوله( تعالي): الذي جعل لكم الارض فراشا:
تقدر مساحه سطح الارض الحاليه بنحو510 ملايين كيلو متر مربع، منها29%( اي نحو149 مليون كيلو متر مربع) يابسه،71%( اي نحو361 مليون كيلو متر مربع) مسطحات مائيه، نصفها تقريبا( اي نحو173.6 مليون كيلو متر مربع) ارصفه قاريه اي اجزاء من حواف القارات مغموره بالماء. وهذه الضخامه في ابعاد الارض جعلتها تبدو مستويه بالنسبه الي نظر الانسان وامكانات حسه.
وكل من سطح اليابسه وقيعان البحار والمحيطات ليس تام الاستواء، حيث ان كلا منهما يتعرج في تضاريس متباينه; ويقدر ارتفاع اعلي قمه علي سطح اليابسه وهي قمه افرست باقل قليلا من تسعه كيلو مترات(8.848 م)، ويقدر منسوب اخفض نقطه علي سطح اليابسه( وهي حوض البحر الميت) بنحو اربعمائه متر تحت مستوي سطح البحر، وقاع البحر الميت الذي تصل اعمق اجزائه الي نحو ثمانمائه متر تحت مستوي سطح البحر يعتبر جزءا من اليابسه لانه بحر مغلق.
ويصل منسوب اعمق اغوار المحيطات( وهو غور ماريانا في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين) الي اكثر قليلا من الاحد عشر كيلو مترا(11.033 كم). وبذلك يصل الفرق بين اعلي واخفض نقطتين علي سطح الكره الارضيه الي اقل قليلا من العشرين كيلو مترا(19.881 كم)، وبنسبه ذلك الي نصف قطر الارض( المقدر بنحو6371 كيلو مترا في المتوسط) يتضح ان الفارق بين اعلي واخفض نقطتين علي سطح الكره الارضيه لا يكاد يتعدي0.3% من طول نصف قطرها.
واذا اخذنا الفرق بين متوسط ارتفاع اليابسه( والمقدر بنحو840 م فوق مستوي سطح البحر) ومتوسط اعماق البحار والمحيطات( والمقدر بنحو3729 م الي4500 م) ونسبنا ذلك الي نصف قطر الارض( المقدر بنحو6371 كم) كانت النسبه في حدود0.007% وهذا يمثل قمه التسويه والتمهيد والفرش لسطح الارض خاصه اذا علمنا ان اليابسه بدات بسلاسل من الجبال شديده الوعوره، ثم سخر الله( تعالي) عمليات التعريه المختلفه من التجويه والتحات الي النقل والترسيب في تسويه تلك السلاسل الجبليه الي تلال قليله الارتفاع او متوسطه، وسهول منبسطه تشقها الاوديه والمجاري المائيه التي تحمل رسوبياتها الي السهول والمنخفضات كما تحملها الي البحار والمحيطات مكونه دالات عملاقه ظاهره ومغموره تتقدم في البحار التي تصب فيها، وهنا تنتهي عمليات تعريه سطح الارض بوصوله الي مستوي سطح البحر علي هيئه سهل تحاتي منبسط.
وقد استمر الصراع بين العمليات الداخليه البانيه لسطح الارض، والعمليات الخارجيه الهدميه التي تحاول ان تصل بسطح الارض الي مستوي سطح البحر في دورات متتاليه تعرف باسم دورات شكل الارض او دورات التحات ظلت تعمل علي مدي4.6 بليون سنه علي الاقل حتي تم تمهيد سطح الارض وبسطه، وجعله فراشا للانسان ولغيره من المخلوقات، وامكن شق الفجاج والسبل فيه، وتكوين المجاري المائيه، والبحيرات الداخليه، والاغوار والمنخفضات الاخري، وسوف يظل الامر كذلك حتي يرث الله( تعالي) الارض ومن عليها، في تبادل مستمر بين اليابسه والماء( القارات والمحيطات)، وبين المرتفعات والمنخفضات، وبين دورات الصخور، وغير ذلك من عمليات الاتزان الارضي التي سخرها ربنا( تبارك وتعالي) في تهيئه الارض لاستقبال الحياه، والتي لا تزال تعمل الي قيام الساعه. وفي تلك الدورات المتبادله بين البناء والهدم تكونت السهول الخصبه، والتربه الغنيه، والركازات المختلفه من المعادن، والصخور التي تحوي في احشائها الكثير من خيرات الارض التي تجمعت عبر ملايين السنين، فمعدلات تجمع الرسوبيات تتراوح بين مائه ومائتين من السنين لتجمع السنتيمتر الواحد من سمك الطبقات المترسبه، بينما تتراوح معدلات التعريه بين ثلاث سنوات وثلاثمائه سنه لازاله سنتيمتر واحد من كتله الصخور المتكونه، وهذا يعني ان عمليات تسويه سطح الارض حتي اصبحت صالحه للعمران قد استهلكت من الزمن والطاقه ما لا تستطيع البشريه مجتمعه ان تقوم بالوفاء بتكلفته، ومن هنا يمن علينا ربنا( تبارك وتعالي) بقوله:( عز من قائل): الذي جعل لكم الارض فراشا...
وذلك في مقام الاستدلال علي الوهيته ووحدانيته وطلاقه قدرته في ابداعه لخلقه.
ثانيا: في قوله( تعالي):... والسماء بناء:
يمن علينا ربنا( تبارك وتعالي) انه جعل السماء من فوقنا بناء محكما علي ضخامه ابعادها، وتعدد اجرامها، وانتشار مختلف صور الماده والطاقه فيها، وذلك بعدد من القوي التي اودعها ربنا( سبحانه وتعالي) في كل جزئيه من جزئياتها، ومن هذه القوي ما يلي:
(1) القوي النوويه الشديده: التي تمسك باللبنات الاوليه للماده في داخل نوي الذره، ولولاها ما تكونت نوي الذرات، ولظل الكون مليئا باللبنات الاوليه للماده فقط، والتي لا تعني شيئا.
(2) القوي النوويه الضعيفه: التي تمسك باللبنات الاوليه للماده في داخل الذرات، ولولاها ما تكونت ذرات الماده ولبقي الكون مليئا بنوي ذرات الماده فقط.
(3) القوي الكهرومغناطيسيه: التي تمسك بذرات الماده في داخل كل من جزيئاتها ومركباتها، وهي التي تودي الي حدوث الاشعاع الكهرومغناطيسي علي هيئه فوتونات الطاقه او ما يعرف باسم الكم الضوئي، ولولا هذه القوه الكهرومغناطيسيه لكان الكون مليئا بذرات العناصر السائبه، ولما كانت هناك جزيئات ولا مركبات ولا نور ولا دفء ولاستحالت الحياه.
(4) قوي الجاذبيه: وهي القوي التي تمسك باطراف السماء وبكل اجرامها، ومختلف تجمعاتها; ولولا هذا الرباط الحاكم الذي اودعه الله( تعالي) في كل اجرام الكون ما كانت الارض ولا كانت السماء، ولو زال هذا الرباط لانفرط عقد الكون وانهارت مكوناته، ومن هنا كانت المنه الالهيه بجعل السماء بناء.
ثالثا: في قوله( تعالي):... وانزل من السماء ماء:
اي انزل من السحاب ماء عذبا فراتا لان المصدر الرئيسي للماء النقي علي سطح الارض هو ماء المطر، وذلك لانه منذ ان اخرج الله( تعالي) ماء الارض من داخلها علي هيئه بخار الماء الصاعد مع ثورات البراكين، وكثفه في نطاق المناخ من الغلاف الغازي للارض الذي يتبرد بالارتفاع، فرده مطرا سال علي سطح الارض، وفاض الي منخفضاتها مكونا البحار والمحيطات، ثم بدات دوره الماء حول الارض; ويقدر ما يرتفع من الارض الي غلافها الغازي سنويا بنحو(380.000 كيلو متر مكعب) من الماء يتبخر اغلبه من اسطح البحار والمحيطات(320.000 كيلو متر مكعب)، ويرتفع الباقي من اليابسه(60.000 كيلو متر مكعب).
ويعود كل ما يتبخر من ماء الارض اليها ثانيه بمشيئه الله وارادته لينزل منه علي اليابسه(96.000 كيلو متر مكعب) وعلي البحار والمحيطات(284.000 كيلو متر مكعب)، وفي هذه الدوره المعجزه تكسب اليابسه سنويا(36000 كيلو متر مكعب) من ماء البحار والمحيطات ينزل عليها مطرا يجري ماء علي سطح الارض ويودي ادوارا مهمه علي اليابسه ثم يفيض الي البحار والمحيطات مره اخري، وكل الماء المخزون تحت سطح الارض علي كثرته اصله من ماء المطر.
وفي هذه الدوره المعجزه للماء حول الارض يتحرك الماء الي الغلاف الغازي للارض فيتطهر مما تجمع به من املاح وملوثات، ويعاود نزوله علي الارض ماء طهورا، وتمتد هذه الدوره من نحو الكيلو متر تحت مستوي سطح البحر الي ارتفاع15 كم فوق مستوي سطح البحر، فيتم بواسطتها تطهير الماء، وتلطيف الجو، وتوفير نسب متفاوته من الرطوبه فيه، وري كل من الانسان والحيوان والنبات، وتغذيه كل من الانهار والجداول، والتربه السطحيه، وخزانات الماء تحت سطح الارض فيعمل علي زياده كمياتها، وعلي تجديد عذوبتها، وعلي تعويض ما يفيض الي السطح او يضخ منها، كما يتم تفتيت الصخور، وتكون كل من التربه والصخور الرسوبيه، وتركيز العديد من المعادن والصخور والخامات الاقتصاديه.
وكما يكون في ماء المطر خير ورحمه، فقد يجعله ربنا( تبارك وتعالي) عقابا وعذابا حينما تودي السيول الجارفه الي دمار شامل او فيضانات مغرقه بالانهار والجداول والسيول تاتي علي الحرث والنسل.
والغطاء الرسوبي للارض الذي يقدر حجمه باكثر من360.000 كيلو متر مكعب يرجع الفضل في تكوينه الي دوره الماء حول الارض، وما بهذا الغطاء من رسوبيات ملحيه تقدر كتلتها بملايين الاطنان ناتج عن عمليات التبخير بعد ان اذابته مياه الامطار اصلا من صخور اليابسه ثم حملته الي البحار والمحيطات ليعود مره اخري الي اليابسه في دورات التبادل بين المحيطات والقارات، حينما يتحول احدهما الي الاخر.
رابعا: في قوله( تعالي):... فاخرج به من الثمرات رزقا لكم...:
جاء ذكر اخراج الثمرات من الارض لتمثل النعمه الرابعه من نعم الله علي العباد في هذه الايه الكريمه، وهي نعمه لا تستقيم الحياه بدونها وذلك لارتباط حياه كل من الانسان والحيوان بالنبات ومنتجاته خاصه بثمار النباتات العليا. ومن هنا كانت حكمه الله البالغه في خلق النبات ثم الحيوان، وبعد ان اكتملت كل صور الخلق وهيئت الارض لاستقبال الانسان خلقه الله( سبحانه وتعالي) وجعله اكرم المخلوقات.
وقد جاء ذكر اخراج الثمرات من الارض في هذه الايه الكريمه في تسلسل منطقي جميل، اشار اولا الي تكوين التربه بواسطه عمليات التعريه المختلفه( من التجويه والتحات الي النقل والترسيب) التي فتتت صخور الارض، وكونت السهول المنبسطه، والتربه الخصبه اللازمه للانبات، وجعلت الارض فراشا ممهدا لحياه كل من النبات والحيوان والانسان. ثم اشارت الي بناء السماء واولها الغلاف الغازي للارض والسحاب المسخر بينهما في نطاق المناخ الذي خصصه ربنا( تبارك وتعالي) بالتبرد مع الارتفاع حتي يتكثف فيه بخار الماء المرتفع من الارض فيعود اليها مطرا باذن الله.. ولذلك اشارت الايه الكريمه الي انزال الماء من السماء، فاخرج الله( تعالي) به مختلف الثمرات رزقا للعباد، وهي من نعم الله العديده علي الانسان وعلي ما حوله من مخلوقات.
وتشمل الثمرات كل جزء يستخدمه الانسان من النبات سواء كان هذا الجزء من جذور النبات او سيقانه او اوراقه او ازهاره، وبذلك تقسم الثمرات الي ثمرات حقيقيه واخري غير حقيقيه.، ومن الثمرات الحقيقيه ثمرات الفاكهه، التي تمثل الثمره فيها مبيض الزهره بعد تمام اخصابه بحبوب اللقاح، وتكون جنين النبته في البذره( او البذور) محاطا بالعديد من الاغلفه النباتيه لحمايته ولتغذيه الجنين في وقت انباته، وقد تمثل الثمره بالبذره( او البذور) في حالات الحبوب والبقول بانواعها المختلفه. ووظيفه الثمار الاولي هي المحافظه علي جنين النبته في داخل البذره( او البذور) ومده بالغذاء في وقت الانبات، ومساعده هذا النوع من النبات علي استمراريه الوجود علي الارض الي ان يشاء الله، وعلي الانتشار الافقي في الارض بانتشار بذوره، ولولا ذلك لانقرضت انواع النباتات العليا، ووظيفه الثمار الثانيه هي غذاء كل من الانسان والحيوان.
وتقسم الثمار الحقيقيه الي ثمار بسيطه، ومجمعه، ومركبه، وتقسم الثمار البسيطه الي جافه وغضه، اما الثمار المجمعه المركبه فاغلبها غضه; والثمار غير الحقيقيه هي الثمار التي تدخل في تركيبها اجزاء اخري غير المبيض، وهذه ايضا اما ان تكون بسيطه كالتفاح، او مجمعه كالشليك، او مركبه من مثل كل من التين والتوت، او قد تكون جزءا من النبات غير النوره والزهره.
ومن ثمرات النبات ما يمثل غذاء رئيسيا للانسان، ولما يستخدمه من مختلف صور الحيوان، ومنها كثير من الزيوت والدهون والاصباغ والالوان التي يستخدمها الانسان في طعامه وصناعاته المختلفه، ومنها العديد من انواع الدواء التي يحتاجها كل من الانسان والحيوان في تطبيب امراضه، وعلاج اوجاعه، ومن هنا كان اخراج الثمرات من الارض من رزق الله الذي يمتن به علي عباده، ومن الشهادات الناطقه بطلاقه القدره الالهيه في ابداع الخلق وتنوعه.
خامسا: في قوله( تعالي): فلا تجعلوا لله اندادا وانتم تعلمون:
بعد استعراض جانب من نعم الله علي العباد جاء الامر الالهي بتحريم الشرك بالله اندادا لا تنفع ولا تضر، ولا تملك لنفسها من امر الله شيئا، وكل عاقل يدرك ان الله( تعالي) وحده هو الخالق الرازق ذو القوه المتين، وان الخلق جميعا عبيده، ولذلك عندما سئل رسول الله( صلي الله عليه وسلم): اي الذنب اعظم عند الله؟ قال: ان تجعل لله ندا وهو خلقك وقوله( صلي الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل: اتدري ما حق الله علي عباده؟ ثم اجاب( عليه افضل الصلاه وازكي التسليم): بقوله الشريف ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. هذه الحقائق التي ساقتها الايه الكريمه لتنتهي الي الامر بتوحيد الله الخلاق الرزاق العليم، والي النهي عن الشرك الذي وصفه ابن عباس( رضي الله عنهما) بقوله: الانداد هو الشرك اخفي من دبيب النمل علي صفاه سوداء في ظلمه الليل....
هذه الحقائق الكونيه لم يصل اليها علم الانسان الا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وورودها في كتاب الله المنزل من قبل اربعه عشر قرنا لمما يقطع بانه كلام الله الخالق، ويشهد بالنبوه والرساله للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه، كما يشهد بصدق ما جاء به من الدعوه الي التوحيد الخالص لله، وعبادته( تعالي) وحده بما امر، بغير شريك ولا شبيه ولا منازع.. فاشهد انه لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله( صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي اله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين) والحمد لله رب العالمين.
إرسال تعليق