بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 9 سبتمبر 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"
رب السماوات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
9/9/2002
هذه الايه الكريمه جاءت في مطلع الثلث الاخير من سوره مريم، وهي سوره مكيه، عدد اياتها98 بعد البسمله، وقد سميت بهذا الاسم لورود قصه السيده مريم ابنه عمران فيها، ومعجزه ولادتها للسيد المسيح( عليه السلام)، وهي عذراء لم يمسسها بشر، ومعجزه كلامه( عليه السلام)، وهو في المهد دفاعا عن امه( شرفها الله) التي حاول اليهود( عليهم لعنه الله) ان ينالوا من شرفها، كما لوثوا سيره كل نبي ارسل اليهم....!!
والمحور الرئيسي لسوره مريم يدور حول قضيه العقيده بابعادها المختلفه، وفي مقدمتها توحيد الله، توحيدا مطلقا فوق كل خلقه، وتنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل نسبه الولد او الشريك اليه، والتاكيد علي طلاقه قدرته التي لاتحدها حدود، ولايقف امامها عائق; وترسيخ عقيده البعث، والحساب، والجنه، والنار، واثبات وحده رساله السماء التي انزلها ربنا( تبارك وتعالي) علي فتره من الرسل، وسماها باسم الاسلام، والدعوه الي الاجتهاد في القيام بواجبات الاستخلاف في الارض بحسن عمارتها، واقامه عدل الله فيها، واشاعه الامن والفضيله في ارجائها والتذكير بالاخره والتحذير من اهوالها...!!
ولتاكيد هذه المعاني تعرض سوره مريم لجوانب من القصص المتعلق بعدد من انبياء الله، ولمصارع مكذبيهم في الدنيا من الكفار والمشركين، ولمصيرهم الاسود في الاخره....!!
وتبدا سوره مريم بخمسه من الحروف المقطعه، وهي( كهيعص)، وقد وردت بهذه الصيغه مره واحده في القران كله.
وهذه الفواتح الهجائيه او( الحروف المقطعه) تتكون من اربعه عشر حرفا، جمعت في اربع عشره صيغه، ورد كل منها مره واحده الا اربعا منها هي:( الم)، وقد تكررت ست مرات في القران الكريم،( الر)، وقد تكررت خمس مرات،( طسم)، وقد تكررت مرتين، و(حم)، وقد تكررت بمفردها ست مرات، وتكررت مره سابعه في الصيغه الخماسيه( حم* عسق)، وبذلك يكون مجموع الصيغ المكرره تسع عشره، ومجموع الصيغ غير المكرره عشر صيغ، وتضم هذه الفواتح الهجائيه اسماء نصف حروف الهجاء الثمانيه والعشرين، وقد استفتحت بها تسع وعشرون سوره من سور القران الكريم.
وهذه الفواتح الهجائيه هي من اسرار القران العظيم، التي توقف عن الخوض فيها اعداد من علماء المسلمين مكتفين بتفويض الامر فيها الي الله( سبحانه وتعالي)، وراي عدد اخر ضروره الاجتهاد في تفسيرها وفهم دلالاتها، وان لم يصلوا بعد الي اجماع في ذلك، فمنهم من راي فيها رموزا الي كلمات او معان، او اعداد معينه، او اسماء للسور التي وردت في اوائلها; ومنهم من راي فيها وسيله قرع لاسماع وقلوب القارئين للقران او المستمعين اليه، حتي يتهياوا لتلقي كلام الله; ومنهم من راي فيها معجزه لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) من حيث نطقه باسماء الحروف، وهو امي، والامي ينطق باصوات الحروف دون معرفه اسمائها; ومنهم من راي فيها تنبيها عن اعجاز القران الكريم الذي صيغ من جنس تلك الحروف الهجائيه التي يتكلم بها العرب، ويعجزون عن الاتيان بشئ من مثله وقد يكون فيها كل ذلك، وغيره مما لايعلمه الا الله( تعالي); هذا وقد جمع عدد من المفسرين هذه الحروف في مجموعات من الجمل من اشهرها: نص حكيم قاطع له سر.
وبعد هذا الاستهلال المميز استعرضت السوره الكريمه ضراعه نبي الله زكريا( عليه السلام) الي الله( تعالي)، خفيه، ان يهبه ذريه صالحه، وقد بلغ منه الكبر مبلغا، وكانت امراته عاقرا، وكيف استجاب الله لدعائه، ووهبه يحيي نبيا، وسيدا، وحصورا، وكانت ولادته من ام عاقر، واب طاعن في السن معجزه ناطقه بطلاقه القدره الالهيه التي لا تحدها حدود.
ثم انتقلت السوره الي قصه السيده مريم البتول( عليها رضوان الله)، وحملها دون ان يمسها بشر، ووضعها لنبي الله عيسي( علي نبينا وعليه السلام); وانطاق الله( تعالي) لهذا الوليد المبارك، وهو في المهد، وما رافق هذه المعجزات من مشاهد واحداث توكد عبوديه المسيح لله الخالق( سبحانه وتعالي)، وذلك بنطقه المدون في سوره مريم بالنص التالي:
قال اني عبدالله اتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا اينما كنت واوصاني بالصلاه والزكاه مادمت حيا* وبارا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا* والسلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا*( مريم:30 33).
وتستمر الايات موكده اختلاف كل من اليهود والنصاري حول شخص المسيح( علي نبينا وعليه السلام)، وانحراف غالبيه اتباعه عن منهجه، وانقسامهم الي العديد من الفرق; وانغماسهم في بحور من الضلال المبين، ولذلك تتهددهم الايات بيوم القيامه ومشاهده المفزعه كما توكد تنزيه الله( تعالي) عن الولد، وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): ذلك عيسي ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله ان يتخذ من ولد سبحانه اذا قضي امرا فانما يقول له كن فيكون* وان الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* اسمع بهم وابصر يوم ياتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وانذرهم يوم الحسره اذ قضي الامر وهم في غفله وهم لايومنون* انا نحن نرث الارض ومن عليها والينا يرجعون* (مريم:34 40).
وبعد ذلك تعرض سوره مريم لجانب من قصه نبي الله ابراهيم( علي نبينا وعليه السلام) وحواره مع ابيه، وثباته علي الحق الذي شرح الله صدره له، واكرام الله( تعالي) له بذريه صالحه من الانبياء علي الرغم من كبر سنه; واتبعت ذلك بالحديث عن سلسله من انبياء الله( علي نبينا وعليهم من الله السلام)، ومنهم موسي، وهارون، واسماعيل، وادريس، وجميعهم من ذريه ادم( عليه السلام)،ومنهم من هو ممن حملهم الله( تعالي) مع نوح، ومنهم من هو من ذريه كل من ابراهيم، ويعقوب( عليهما السلام)، وممن هدي الله واجتبي، وقد استغرق الحديث عن هذه السلسله الطويله من الانبياء ثلثي سوره مريم تقريبا.
وقد المحت السوره الكريمه الي انحراف الذين جاءوا من بعد هذه السلسله الصالحه، فحادوا عن منهج الله، وفيهم تقرا الايات:
فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاه واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا* الا من تاب وامن وعمل صالحا فاولئك يدخلون الجنه ولايظلمون شيئا*( مريم:60،59)
واستعرضت السوره جانبا من وصف الجنه; ثم انتقلت الي تاكيد حقيقه ان الملائكه لاتتنزل الا بامر الله، وتوصي الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) ومن ثم توصي اتباعه بالاصطبار علي عباده الله وجعلها محورا للحياه، فتقول:
ومانتنزل الا بامر ربك له مابين ايدينا وماخلفنا ومابين ذلك وما كان ربك نسيا* رب السماوات والارض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65،64).
وتعرج السوره الكريمه الي انكار الكثيرين لحقيقه البعث، وتذكرهم بخلقهم الاول من العدم، وتهددهم بحشرهم جثيا علي ركبهم حول جهنم، والقائهم جثيا فيها، ونجاه المتقين من هذا المشهد الرهيب.
وتشير سوره مريم الي تفاخر الكفار والمشركين في هذه الدنيا بشيء من حطامها الفاني، ومتاعها الزائل، وتستنكر تعاليهم علي المسلمين، وتعييرهم لهم بفقرهم، وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي): قل من كان في الضلاله فليمدد له الرحمن مدا حتي اذا راوا مايوعدون اما العذاب واما الساعه فسيعلمون من هو شر مكانا واضعف جندا*( مريم:75).
وتذكر السوره الكريمه بالهالكين من الامم السابقه; وبان الله( تعالي) يمد للضالين في غيهم حتي اذا اخذهم لم يفلتهم، ويزيد الذين اهتدوا هدي، وانه لايبقي من هذه الحياه الدنيا الا العمل الصالح.
وتستعرض السوره مواقف بعض الكفار والمشركين في استعلائهم علي الحق واهله، وصلفهم في التعامل مع الله ومع خلقه، وتطالب الايات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ان يصبر علي اذاهم وبالا يعجل عليهم لان حساب الله ينتظرهم في يوم يصفه الحق( تبارك وتعالي) بقوله:
يوم نحشر المتقين الي الرحمن وفدا* ونسوق المجرمين الي جهنم وردا*( مريم:86،85)
وعاودت سوره مريم الاستنكار الشديد من قبل الله( تعالي) ومن قبل الكون كله لادعاءات المبطلين نسبه الولد زورا الي الله( تعالي)، وهو( سبحانه) المنزه عن هذا النقص، المتصف بكل صفات الكمال المطلق، وفي ذلك نزلت الايات بقول الحق( تبارك وتعالي): وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا ادا* تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا* ان دعوا للرحمن ولدا* وماينبغي للرحمن ان يتخذ ولدا* ( مريم:'88 92).
وتختتم السوره الكريمه بالقرار الالهي:
ان الذين امنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا*( مريم:6)
وبان القران الكريم قد يسره ربنا( تبارك وتعالي) علي لسان هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه مسلم) ليبشر به المتقين، وينذر به قوما لدا.
وتعاود سوره مريم التذكير في اخر اياتها بالامم البائده التي اهلكها الله( تعالي) عقابا علي كفرها، وتسال رسول الله( صلي الله عليه وسلم): هل تحس منهم من احد او تسمع لهم همسا؟ كما توجه السوال الي كل الخلق لعلهم يعتبرون، وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
وكم اهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من احد او تسمع لهم ركزا*( مريم:98).
والحقائق التاريخيه والعلميه التي اوردتها سوره مريم اكثر من ان تحصي في مقال واحد، ولذا فسوف اقصر الحديث هنا علي ايه واحده هي الايه رقم(65)، التي جاءت فيها الاشاره الي( السماوات والارض، ومابينهما)، وقبل تبيان الدلاله العلميه التي يمكن استخلاصها من تلك الايه المباركه لابد من استعراض سريع لاقوال عدد من المفسرين السابقين في شرح دلالتها.
من اقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
رب السماوات والارض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65)
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) مانصه:... وقوله( رب السماوات والارض ومابينهما) اي خالق ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لامعقب لحكمه،( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) قال ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا او شبيها. وقال عكرمه، عن ابن عباس: ليس احد يسمي الرحمن غيره تبارك وتعالي وتقدس اسمه.
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه: وهو( رب) مالك( السماوات والارض)( ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته) اي: اصبر عليها( هل تعلم له سميا) اي مسمي بذلك؟ لا....
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعه) ما نصه:.... رب السماوات والارض ومابينهما فلا ربوبيه لغيره، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.( فاعبده واصطبر لعبادته)... اعبده واصطبر علي تكاليف العباده، وهي تكاليف الارتقاء الي افق المثول بين يدي المعبود، والثبات في هذا المرتقي العالي. اعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء، والتلقي في ذلك الافق العلوي.... انها مشقه، مشقه التجمع والاحتشاد والتجرد من كل مشاغل، ومن كل هاتف، ومن كل التفات... وانها مع المشقه للذه لايعرفها الا من ذاقها، ولكنها لا تنال الا بتلك المشقه، والا بالتجرد لها، والاستغراق فيها، والتحفز لها بكل جارحه وخالجه، فهي لاتفشي سرها، ولاتمنح عطرها الا لمن يتجرد لها، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا.
(فاعبده واصطبر لعبادته)... والعباده في الاسلام ليست مجرد الشعائر، انما هي كل نشاط: كل حركه، كل خالجه، كل نيه، كل اتجاه، وانها لمشقه ان يتجه الانسان في هذا كله الي الله وحده دون سواه، مشقه تحتاج الي الاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من انشطه الارض الي السماء، خالصا من اوشاب الارض، واوهاق الضرورات، وشهوات النفس، ومواضعات الحياه.
انه منهج حياه كامل، يعيش الانسان وفقه، وهو يستشعر في كل صغيره وكبيره طوال الحياه انه يتعبد الله، فيرتفع في نشاطه كله الي افق العباده الطاهر الوضئ. وانه لمنهج يحتاج الي الصبر والجهد والمعاناه.( فاعبده واصطبر لعبادته).. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود الذي تتجه اليه الفطر والقلوب..( هل تعلم له سميا؟) هل تعرف له نظيرا؟ تعالي الله عن السمي وعن النظير....
* وذكر صاحب صفوه البيان لمعاني القران( رحمه الله رحمه واسعه) مانصه:( هل تعلم له سميا) نظيرا او شبيها يستحق العباده لربوبيته والوهيته، وكمال تنزهه عن النقائص، واتصافه بصفاته الجليله.
* وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: فهو سبحانه الخالق المالك للسماوات والارض ومابينهما، والمدبر لشئونهما، والمستحق وحده للعباده، فاعبده ايها المخاطب، وثابر علي عبادته صابرا مطمئنا، فهو سبحانه المستحق وحده للعباده، وليس له نظير يستحق العباده، او يسمي باسم من اسمائه....
* وجاء في صفوه التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه:
( رب السماوات والارض ومابينهما فاعبده) اي هو رب العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده( واصطبر لعبادته) اي اصبر علي تكاليف العباده( هل تعلم له سميا) اي هل تعلم له شبيها ونظيرا؟.
السماوات والارض ومابينهما في القران الكريم
ورد تعبير( السماوات والارض ومابينهما) في ثمانيه عشر موضعا من القران الكريم، كما جاء تعبير( السماء والارض ومابينهما) في موضعين من كتاب الله، وبذلك يكون مجموع مرات ورود هذه الاشاره العلميه الدقيقه عشرين مره علي النحو التالي:
(1).... ولله ملك السماوات والارض ومابينهما يخلق ما يشاء والله علي كل شيء قدير* ( المائده:17)
(2).... ولله ملك السماوات والارض ومابينهما واليه المصير( المائده:18).
(3) وماخلقنا السماوات والارض ومابينهما الا بالحق وان الساعه لاتيه فاصفح الصفح الجميل( الحجر:85).
(4) رب السماوات والارض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا( مريم:65).
(5) له مافي السماوات وما في الارض ومابينهما وماتحت الثري( طه:6).
(6) وما خلقنا السماء والارض ومابينهما لاعبين( الانبياء:16).
(7) الذي خلق السماوات والارض ومابينهما في سته ايام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسال به خبيرا( الفرقان:59).
(8) قال رب السماوات والارض ومابينهما ان كنتم موقنين( الشعراء:24).
(9) او لم يتفكروا في انفسهم ما خلق الله السماوات والارض ومابينهما الا بالحق واجل مسمي وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:8).
(10) الله الذي خلق السماوات والارض ومابينهما في سته ايام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولاشفيع افلا تتذكرون( السجده:4).
(11) رب السماوات والارض ومابينهما ورب المشارق( الصافات:5).
(12) ام لهم ملك السماوات والارض ومابينهما فليرتقوا في الاسباب( ص:10).
(13) وماخلقنا السماء والارض ومابينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار( ص:27).
(14) رب السماوات والارض ومابينهما العزيز الغفار( ص:66).
(15) وتبارك الذي له ملك السماوات والارض ومابينهما وعنده علم الساعه واليه ترجعون( الزخرف:85).
(16) رب السماوات والارض ومابينهما ان كنتم موقنين( الدخان:7).
(17) وماخلقنا السماوات والارض ومابينهما لاعبين( الدخان:38).
(18) ماخلقنا السماوات والارض ومابينهما الا بالحق واجل مسمي والذين كفروا عما انذروا معرضون( الاحقاف:3).
(19) ولقد خلقنا السماوات والارض ومابينهما في سته ايام وما مسنا من لغوب( ق:38).
(20) رب السماوات والارض ومابينهما الرحمن لايملكون منه خطابا( النبا:37).
وقد احتار المفسرون في شرح دلاله التعبيرين القرانيين:( السماوات والارض ومابينهما)، و(السماء والارض ومابينهما) فمنهم من قال: انها دلاله علي ان جميع الموجودات هي من خلق الله( تعالي)، وملك يمينه، وتحت قهره، وسلطانه، لان الله تعالي هو المالك لكل شيء، ومنهم من قال: ان هذا النص يشير الي سائر اجرام السماء من نجوم وكواكب واقمار واتربه كونيه، وغازات وطاقات يتالف الكون منها، ومنهم من مر بها في صمت ودون ادني تعليق، ولكن هناك ايتين من ايات القران الحكيم تلقيان الضوء علي دلاله هذا النص القراني المعجز( السماوات والارض ومابينهما)، او( السماء والارض ومابينهما) في الاولي منهما يقول ربنا( تبارك وتعالي):
ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وماانزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابه وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون( البقره:164).
ومن هذه الايه الكريمه يتضح ان السحاب هو مما بين السماء والارض.
وفي الايه الثانيه يقول ربنا( تبارك وتعالي):
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله علي كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علما (الطلاق:12).
ومن هذه الايه الكريمه يفهم ان هناك مسافات بينيه تفصل كل سماء عن التي تليها، كما تفصل كل ارض عن التي تليها، وتفصل كلا من السماء الدنيا، وباقي السماوات السبع عن الارض، ولايتاتي ذلك الا اذا كانت الارض في مركز السماوات.
ويروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قوله: سبحان الله عدد ماخلق في السماء، سبحان الله عدد ماخلق في الارض، سبحان الله عدد ماخلق بينهما، سبحان الله عدد ماهو خالق....
وقوله صلي الله عليه وسلم: اطت السماء اطا، وحق لها ان تئط...، ما من اربع اصابع الا وفيها ملك قائم او راكع او ساجد يعبد ربه....
ما بين السماوات والارض في العلوم المكتسبه
تجمع العلوم المكتسبه علي ان كلا من الماده والطاقه يملا فسحه الكون بتركيز مختلف، لان خلق كل من المكان والزمان; والماده والطاقه قد تزامن مع عمليه الانفجار العظيم( فتق الرتق)، فلا يمكن تصور مكان بلا زمان، ولا زمان بلا مكان، كما لايمكن تصور مكان وزمان بغير ماده وطاقه. فكل من الماده والطاقه يتكثف في مختلف اجرام السماء بتركيز مختلف، كما يوجد بكثافات قليله ومتباينه بين كل جرم والاخر، وتحرك الماده والطاقه بين السماء الدنيا واجرامها من الامور الثابته علميا، التي اكدتها الدراسات الفلكيه، ومن امثلتها تخلق النجوم من الدخان الكوني، وعودتها اليه بانفجارها في دوره حياه النجوم، ومن امثلتها كذلك انتثار الكواكب وعوده مادتها الي الغبار الكوني او الي الشهب والنيازك التي اما ان تحترق او تتهاوي علي عدد من اجرام السماء.
وقد فصلنا في مقال سابق تركيب كل نطاق من نطق الغلاف الغازي للارض، وتناقص تركيز كل من الماده والطاقه بالارتفاع فيه حتي يتداخل في تركيب الجزء الاسفل من السماء الدنيا مكونا خليطا من مادتهما لعله المقصود بالبينيه الفاصله بين الارض والسماء الدنيا; وهذه الماده الفاصله بين السماء والارض تكونت باختلاط ما تصاعد من فوهات البراكين مع ما كان حول الارض من ماده مابين الكواكب فتكون الخليط المعروف باسم الغلاف الغازي للارض وهو خليط مكون من ماده الارض، وماده السماء الدنيا فحق له ان يفصل بين كل منهما بوصف القران الكريم له بصفه البينيه( السماء والارض ومابينهما).
واول نطق الغلاف الغازي للارض هو نطاق الرجع او نطاق التغيرات الجويه او نطاق الطقس، ويمتد من مستوي سطح البحر الي ارتفاح نحو17 كيلومترا فوق خط الاستواء( ويتناقص هذا السمك الي مابين8،6 كيلومترات فوق القطبين; ويختلف فوق مناطق العروض الوسطي باختلاف ظروفها الجويه فينكمش الي ما دون السبعه كيلومترات في مناطق الضغط المنخفض ويتمدد الي نحو13 كيلومترا في مناطق الضغط المرتفع).
ويضم نطاق الرجع نحو ثلث كتله الغلاف الغازي للارض(66%)، وتتناقص درجه الحراره فيه باستمرارمع الارتفاع حتي تصل الي ستين درجه مئويه تحت الصفر فوق خط الاستواء، وذلك في قمه هذا النطاق المعروفه باسم مستوي الركود الجوي، ويتناقص عنده الضغط الي نحو عشر قيمته عند سطح البحر.
وفي هذا النطاق يتكثف بخار الماء الصاعد من الارض مكونا السحب، ومنها يهطل كل من المطر والبرد والثلج باذن الله، وتحدث ظواهر الرعد والبرق، والعواصف، والدوامات وتيارات الحمل الهوائيه، وغير ذلك من حركات الرياح، وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):(... والسحاب المسخر بين السماء والارض....)( البقره:164).
وعلي ذلك فان نطاق الرجع ومن فوقه بقيه نطق الغلاف الغازي للارض حتي حدود النطاق المغناطيسي يمثل فاصلا حقيقيا بين الارض والسماء الدنيا، وسبق القران الكريم بالاشاره الي هذه( البينيه) من قبل الف واربعمائه سنه يعتبر ومضه من ومضات الاعجاز العلمي في كتاب الله، لم يصل اليها علم البشر الا في العقود المتاخره من القرن العشرين.
الاهميه العلميه للتعبير القراني السماوات والارض ومابينهما
اضافه الي سبق القران الكريم بالاشاره في عشرين موضعا منه الي( مابين السماء والارض) او( مابين السماوات والارض)، وهو سبق علمي حقيقي لم تدركه العلوم المكتسبه الا في العقود المتاخره من القرن العشرين، فان هذه الاشاره المعجزه تحوي من الحقائق العلميه مايفوق هذا الكشف العلمي اهميه وجداره، وذلك لان اول مايمكن استنتاجه من هذا النص القراني هو توسط الارض للسماء الدنيا وللسماوات السبع كلها، لانها متطابقه يغلف الخارج منها الداخل، وهي حقيقه لايمكن للانسان ان يصل اليها لانه علي الرغم من تقدمه العلمي، والتقني المذهل محدود بحدود حسه وعقله، وبحدود مكانه( اي وجوده علي كوكب الارض)، وبحدود زمانه اي عمره، ومن هنا فان الانسان لايستطيع ان يدرك من الكون الا جزءا صغيرا من السماء الدنيا، وهذا الجزء الصغير ملئ بالغيوب من مثل الثقوب السود، الماده الداكنه، الكتل المفقوده، وغيرها مما يرغم علماء الفلك والفيزياء الفلكيه علي الاعتراف بان اقصي مايمكن ادراكه في الجزء المشاهد من الكون لا يتعدي العشره بالمائه من مجموع الماده والطاقه الموجوده فيه.
القران الكريم والسنه النبويه المطهره يؤكدان توسط الارض للكون
* ان مقابله القران الكريم( في مئات من اياته) للارض مع السماء او مع السماوات علي ضاله ابعاد الارض بالنسبه الي ابعاد السماوات يوكد اهميه موقع الارض من الكون.
* ان ذكر القران الكريم للنصين( السماوات والارض ومابينهما)، و(السماء والارض ومابينهما) في عشرين موضعا منه يوكد مركزيه الارض من السماء الدنيا، ومن مجموع السماوات السبع; وذلك لان هذه البينيه لايمكن ان تتم لو لم تكن الارض في مركز السماوات السبع.
* ويوكد ذلك جمع القران الكريم لاقطار السماوات والارض في وصف واحد كما جاء في قول الحق( تبارك وتعالي):
يامعشر الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السماوات والارض فانفذوا لاتنفذون الا بسلطان( الرحمن:33).
وذلك لان قطر اي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه، مرورا بمركزه، فاذا توحدت اقطار السماوات والارض فمعني ذلك ان الارض لابد وان تكون في مركز الكون.
* ويوكد ماسبق حديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) الذي يرويه مجاهد عنه بقوله( عليه الصلاه والسلام): ان الحرم حرم مناء من السماوات السبع والارضين السبع اي في وضع متوسط منها; لان الوصف مناء معناه قصده وعلي حذاه.
ومن اقوال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) البيت المعمور منا مكه اي في مقابلتها وبمحاذاتها.
ويروي كل من قتاده والسدي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) انه قال يوما لاصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله اعلم، قال: فانه مسجد في السماء السابعه بحيال الكعبه، لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون الف ملك، اذا خرجوا منه لم يعودوا اخر ما عليهم.
* ويزيد ذلك تاكيدا حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يروي عنه انه قال فيه: كانت الكعبه خشعه علي الماء، فدحيت منها الارض; والخشعه هي اكمه متواضعه.
وتاتي ابحاث الاستاذ الدكتور حسين كمال الدين( رحمه الله رحمه واسعه) لتوكد توسط مكه لليابسه، فتبرز جانبا من جوانب التكريم المادي الملموس لهذا المكان الطيب الطاهر الذي فضله ربنا( تبارك وتعالي) علي كل اماكن الارض فجعل فيه كعبته المشرفه اول بيت عبد الله فيه علي الارض، وجعلها قبله للمصلين حيثما كانوا، وللحج والعمره للقادرين من المسلمين، ولو لمره واحده في العمر ليتعرضوا لبركات هذا المكان الذي جعل الله( سبحانه وتعالي) الصلاه فيه بمائه الف صلاه كما اخبرنا الحبيب المصطفي( صلي الله عليه وسلم). وياتي العلم في اوج عطائه ليوكد لنا توسط مكه ليابسه الارض، وتاتي احاديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) موكده قيام موقع الكعبه المشرفه الذي هو اصل اليابسه علي حيال البيت المعمور في السماء السابعه، وياتي القران الكريم موكدا توسط الارض للسماوات السبع حتي تبقي الكعبه المشرفه مركز الكون باسره، وهي حقيقه لايمكن للعلوم المكتسبه ان تصل اليها ابدا...!!
فسبحان الذي خلق الاكوان وانشا نظمها بعلمه وجعل الكعبه مركزا لكونه...!!
وسبحان الذي انزل القران، انزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله، وتعهد بحفظه فحفظ بنفس لغه وحيه( اللغه العربيه)، وحفظ حفظا كاملا: كلمه كلمه، وحرفا حرفا، وايه ايه، وسوره سوره بنفس الترتيب الذي جمع به علي عهد رسول الله( صلي الله عليه وسلم)، والموجود في بلايين المصاحف والاسطوانات والاشرطه الممغنطه، والذي نقل لنا متواترا عبر بلايين الصدور ولايزال يحفظ في البلايين منها وذلك خلال الالف والاربعمائه سنه الماضيه، والي ان يرث الله تعالي الارض ومن عليها...!
فالحمد لله منزل القران الكريم، والصلاه والسلام علي الرسول الخاتم الذي تلقاه، ونقله الينا بامانه، وعاش به... وله، فاقام اعظم دوله عرفها التاريخ، ولعل الله تعالي ان يعيننا علي ان نعيد للقران الكريم دولته وسط الفوضي العالميه التي اجتاحت الارض كلها في غيبه الاحتكام الي شريعه الله...!! ووسط السقوط بين مخالب طواغيت الارض....!!! وما ذلك علي الله بعزيز، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
إرسال تعليق