بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 19 أغسطس 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"

والليل إذا يغشاها
هذه هي الايه الرابعه في سوره الشمس، وهي السوره التي استهلها ربنا( تبارك وتعالي) بالقسم بالشمس وباربع من صفاتها المميزه فقال( عز من قائل): والشمس وضحاها* والقمر اذا تلاها* والنهار اذا جلاها* والليل اذا يغشاها* ( الشمس:1 4)
وسوره الشمس سوره مكيه يدور محورها حول ضروره تزكيه النفس الانسانيه بالتعرف علي خالقها ورازقها ومدبر امرها، والخضوع له( تعالي) وحده بالعباده الخالصه،( بغير شريك ولا شبيه ولا منازع)، وبالطاعه لاوامره، واجتناب نواهيه، والاجتهاد في عماره الارض، وارساء القواعد الاساسيه لاقامه عدل الله فيها، وهذا هو مفتاح الفلاح في الدنيا، والنجاه في الاخره، لان الانسان اذا لم يجتهد في تزكيه نفسه بهذا المنهج الرباني، اغواه الشيطان باتباع الهوي، والاغراق في اشباع الشهوات، والانصراف عن معرفه الله، وعن فهم حقيقه رساله الانسان في هذه الحياه فيضل ويشقي كما يشقي غيره، ويظل كذلك حتي يدركه الموت ولم يحقق شيئا من رسالته في هذه الحياه الدنيا، فخسر الدنيا والاخره وذلك هو الخسران المبين.
فالانسان مخلوق ذو اراده حره يختار بها طريقه في هذه الحياه اما الي الخير او الي الشر، وعلي اساس من هذا الاختيار يكون نجاحه او فشله في الدنيا، ونجاته او هلاكه في الاخره، ومن طبائع النفس الانسانيه ومن استعداداتها الفطريه قبولها للخير او للشر باراده مطلقه، واختيار حر، يعقبهما حساب عادل دقيق، ولذلك يستمر القسم في سوره الشمس باربع ايات اخر من ايات الله في الافاق والانفس علي صدق هذه الحقيقه فيقول ربنا( تبارك وتعالي):
والسماء ومابناها* والارض وماطحاها* ونفس وماسواها* فالهمها فجورها وتقواها* ( الشمس:5:8)
ثم ياتي جواب هذا القسم المغلظ بتسع من ايات الله واضحا وضوح الشمس في رائعه النهار يقول فيه الخالق( سبحانه وتعالي): قد افلح من زكاها* وقد خاب من دساها*( الشمس:10،9)
وهاتان الايتان الكريمتان تلخصان رساله الانسان في هذه الحياه: عبدا لله( تعالي) يعبده بما امر، ويحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الارض، ترجمه دقيقه لما امر به ربنا( تبارك وتعالي) من الايمان الصادق والعمل الصالح، ولا يمكن ان يتحقق ذلك للانسان الا بالتعرف علي دين الله من مصادر ربانيه خالصه لم يداخلها ادني قدر من العبث الانساني، والتقول علي الله بالتحريف والتبديل والتغيير في الدين الذي انزله لعباده، ولا يتوفر ذلك لانسان اليوم الا في القران الكريم وفي سنه خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) وقد تعهد الله( تعالي) بحفظهما فحفظا في صفائهما الرباني، واشراقاتهما النورانيه في الوقت الذي تعرضت فيه كل صور الوحي السابقه اما للضياع التام او للتحريف الذي اخرجها عن اطارها الرباني وجعلها عاجزه عن هدايه البشريه.
وبعد تعرف الانسان علي هذا الحق الرباني عليه ان يلزم نفسه باوامر الله، وان يجنبها نواهيه في عمليه مستمره من التزكيه لهذه النفس الانسانيه ومحاسبتها اولا باول، حتي يصل صاحبها الي تحقيق مرضاه الله فيفلح في الدنيا، وينجو من اهوال الاخره، لانه اذا لم يفعل ذلك فانه سوف يترك نفسه علي هواها و... ان النفس لاماره بالسوء الا ما رحم ربي..* فيغرق في بحور من ضلال الكفر او الشك او الشرك. او الفساد والنفاق وسوء الاخلاق، والانحراف عن منهج الله في الحياه، فيخيب ويشقي ويشقي غيره في الدنيا ويخسر ويهلك في الاخره وهذا هو الخسران المبين..
وللتحذير من هذا المصير الوخيم تشير سوره الشمس الي قصه ثمود قوم نبي الله صالح( علي نبينا الكريم وعليه وعلي انبياء الله اجمعين من الله تعالي افضل الصلاه وازكي التسليم)، وقد بغوا وطغوا في الارض وعصوا امر ربهم، وكذبوا رسول الله اليهم، وعقروا الناقه التي جعلها الخالق( سبحانه وتعالي) لهم ايه ومعجزه واختبارا فشلوا فيه، فحق عليهم عقاب الله ونكاله، وفي ذلك جاءت الايات في ختام السوره الكريمه بقول الحق( تبارك وتعالي):
كذبت ثمود بطغواها* اذ انبعث اشقاها* فقال لهم رسول الله ناقه الله وسقياها* فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها* ولا يخاف عقباها* ( الشمس:11 15)
فالله تعالي لا يخشي عقبي قرار يتخذه لانه اولا وقبل كل شيء هو رب هذا الكون ومليكه، لا شريك له في ملكه، ولا منازع له في سلطانه، وهو تعالي لا يسال عما يفعل وهم يسالون...*، ثم ان قراره( سبحانه وتعالي) هو العدل المطلق الذي لا يخالطه ادني قدر من الجور او الظلم، ولذلك ختمت سوره الشمس بالقرار الالهي: ولا يخاف عقباها*.
وفي مقالات سابقه عرضنا لجوانب من الاعجاز العلمي في الايات الثلاث الاولي من سوره الشمس، ونعرض هنا لشيء من تلك الجوانب في الايه الرابعه التي نحن بصددها، وقبل الدخول الي ذلك لابد من التعرض للدلاله اللغويه لالفاظ الايه الكريمه ولاقوال عدد من المفسرين السابقين في شرح معانيها.
الدلاله اللغويه لالفاظ الايه الكريمه
(الليل) واحد، بمعني جمع، وواحدته( ليله) وقد جمع علي( ليال) فزادوا فيها الياء لتصبح( ليالي) علي غير قياس كما فعلوا في اهل واهال فصيروها اهالي، كما يجمع( ليل) علي( ليائل) و( ليله) علي( ليلات) ويقال:( ليل) و( ليله ليلاء واصلها ليلاه) للتعبير عن شده الظلمه، كما يقال:( ليل لائل) للتاكيد علي شده ظلمته، ويقال: عامله( ملايله) اي بالليله مثل قولهم مياومه اي باليوم.
(غشي)( غشاوه) و( غشاء) و( غشيانا) و(تغشيه) بمعني غطي وستر. لان( الغشاء) هو الغطاء الرقيق وكذلك( الغشوه) والجمع( غواش). يقال:( غشيه) و( تغشاه) و( غشيته) كذا اي: غطيته به، و(اغشاه) اياه غيره، ويقال:( استغشي) بثوبه و( تغشي) به اي تغطي به، كما يقال:( غشيه)( غشيانا) بمعني جاءه يقال:( غشيت) موضع كذا اي اتيته، و(غشيه) بالسوط بمعني ضربه به، و(الغاشيه) هي القيامه لانها تغشي الخلائق بافزاعها، و( الغاشيه) ايضا هي( غاشيه) السرج اي غطاوه، ويقال:( غشي) عليه( غشيه) و( غشيا) و( غشيانا) فهو( مغشي) عليه اي غائب عنه وعيه، اي حجب عنه عقله وادراكه.
الليل في القران الكريم
ورد ذكر( الليل) في القران الكريم في اثنين وتسعين(92) موضعا، منها ثلاثه وسبعون(73) بلفظ( الليل)، وثمانيه(8) بلفظ( ليله)، وخمسه(5) بلفظ( ليلا)، وثلاثه(3) بلفظ( ليال)، ومره واحده بكل من الالفاظ الثلاثه(3)( ليل)، و( ليلها)، و( ليالي).
وفي اغلب هذه المواضع يمن علينا ربنا( تبارك وتعالي) بتبادل الليل والنهار، لما في ذلك من استقامه للحياه علي الارض، وعون للانسان علي تحديد الزمن، وتاريخ الاحداث المتتابعه، لانه بدون ذلك التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير يتلاشي احساس الانسان بمرور الزمن، وتتوقف قدرته علي متابعه الاحداث والتاريخ لها. فالليل والنهار ايتان كونيتان عظيمتان من ايات الله في الخلق تشهدان علي دقه بناء الكون، وانتظام حركه الارض حول محورها امام الشمس، وعلي حكمه ميل هذا المحور من اجل تبادل الفصول المناخيه علي الارض في ظل تبادل الليل والنهار بانتظام دقيق، واحكام بالغ.
والتبادل المنتظم بين الليل المظلم والنهار المنير علي نصفي الكره الارضيه هو من الضرورات اللازمه لاستقامه الحياه علي سطحها، فبهذا التبادل يتم التحكم في كل من درجات الحراره، والرطوبه، وكميات الضوء اللازمه لمختلف الانشطه الحياتيه من مثل التنفس والنتح، والتمثيل الضوئي، والايض وغيرها، وتكفي في ذلك الاشاره الي نشاط الغده الصنوبريه في انتاج احد الهورمونات الهامه لحياه الانسان الا وهو هورمون( الميلاتونين) بالليل، وتوقفها عن ذلك بالنهار، وهذا الهورمون يلعب دورا هاما في المحافظه علي جسد الانسان لانه من مضادات الاكسده (ANTI-OXIDANTS) فيقلل من فرص التعرض لامراض القلب والشرايين بالتقليل من فرص تجلط الدم، ويعمل علي المحافظه علي الخلايا العصبيه وخلايا الدماغ، كما يعمل علي تقويه جهاز المناعه بالجسم، ويوخر ظهور اثار الشيخوخه عليه، ويبدو ان التعرض لطاقه الشمس بالنهار يزيد من قدره الغده الصنوبريه علي افراز هورمون( السيروتونين) بالنهار وعلي افراز الميلاتونين بالليل، بينما تعرض الانسان بالليل للاضواء الاصطناعيه لا يساعد علي انتاج السيروتونين ويثبط من قدره هذه الغده علي افراز الميلاتونين الذي تتناقص معدلات انتاجه بزياده شده الضوء الذي يتعرض له الانسان، وتزيد تلك المعدلات كلما اشتد الظلام.
ومن بديع صنع الله في جسم الانسان انه بمجرد ان تلتقط عيناه شعاع النور في النهار ترسل رساله الي الساعه الحياتيه في جسده عن طريق جهازه العصبي فيتوقف انتاج الميلاتونين، ويبدا الجسد في انتاج غيره من الهورمونات( مثل هورمون النهار المعروف باسم السيروتونين)، وتنعكس هذه العمليه مباشره بمجرد غياب الشمس، ومن هنا يتضح جانب من الجوانب الكثيره لاهميه تعاقب الليل والنهار، والتي لا يمكن حصرها في هذا المقال.
كذلك فانه بهذا التعاقب يتم ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالارض، وضبط دوره الماء بين الارض والسماء، وتنظيم حركه كل من الرياح، والسحب، وتوزيع المناخ، ونزول الامطار باذن الله وحسب مشيئته.
وبذلك ايضا يتم تفتيت الصخور، وتكوين كل من التربه الصالحه للانبات، والصخور الرسوبيه ومابها من مختلف الثروات الطبيعيه، وغير ذلك من العمليات والظواهر الارضيه التي بدونها لم يكن ممكنا للارض ان تكون صالحه لاستقبال الحياه.
وفي مقدمه تلك العمليات توزيع مايصيب الارض من الطاقه الشمسيه، اثناء النهار علي كافه ارجاء هذا الكوكب بالنسبه لعمران كل منها، وتوفير القدر الكافي من الظلمه لاستكمال اسباب الراحه والهدوء والسكينه اثناء الليل، وهي من ضرورات استمراريه الحياه لكل من الانسان والحيوان والنبات.
من اجل ذلك كله، ومن اجل تنبيهنا الي عظيم اهميته، والي عميق دلالته علي طلاقه القدره الالهيه المبدعه لهذا الكون اقسم ربنا( تبارك وتعالي) وهو الغني عن القسم بالليل والنهار، وبتبادلهما، وتعاقبهما، واختلافهما، وايلاج كل منهما في الاخر، وادبار احدهما لاستقبال الاخر، وجعل كل منهما خلفه للاخر، وتقليبه علي الاخر، واغشاء احدهما بالاخر، وطلب احدهما للاخر، وكلها اشارات ضمنيه رقيقه الي كرويه الارض ودورانها حول محورها امام الشمس، وسبحها في مدارها حول هذا النجم العظيم، وعلي رقه طبقه النهار بالنسبه الي الظلمه الشامله للجزء المدرك من الكون وكلها من الحقائق التي لم يدركها الانسان ادراكا كاملا الا بانتهاء القرن العشرين، ولايزال نفر كثير من بني الانسان لا يعرف شيئا عنها او ينكرها اذا سمع بها...!!، وهذا السبق القراني بهذه الحقائق الكونيه وبالعديد من غيرها لمما يجزم بان القران الكريم لا يمكن ان يكون صناعه بشريه، بل هو كلام الله الخالق، الذي انزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله ليكون هدايه للبشريه منذ نزوله والي ان يرث الله( تعالي) الارض ومن عليها.
ولذلك يمن علينا ربنا تبارك وتعالي( وهو صاحب الفضل والمنه) بتبادل الليل والنهار في عدد كبير من ايات القران الكريم نختار منها قوله( عز من قائل):
ان في اختلاف الليل والنهار وماخلق الله في السماوات والارض لايات لقوم يتقون* ( يونس:6)
وقوله سبحانه وتعالي: يقلب الله الليل والنهار ان في ذلك لعبره لاولي الابصار* ( النور:44)
وقوله( تبارك اسمه): وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه لمن اراد ان يذكر او اراد شكورا*( الفرقان:62)
وقوله( سبحانه): قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الي يوم القيامه من اله غير الله ياتيكم بضياء افلا تسمعون* قل ارايتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الي يوم القيامه من اله غير الله ياتيكم بليل تسكنون فيه افلا تبصرون* ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون* ( القصص:71 73)
وايات القران الكريم تفرق في وضوح تام بين ليل الارض وليل السماء، وهي حقيقه لم يدركها الانسان الا بعد رحلات الفضاء. فحينما يقول ربنا( تبارك وتعالي):... يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل...* ( الزمر:5)
او يقول( عز من قائل): ومن اياته منامكم بالليل والنهار وابتغاوكم من فضله ان في ذلك لايات لقوم يسمعون* ( الروم:23)
والايات الاخري الكثيره التي تتعلق بالارض وحركاتها او اهلها فان المقصود بالليل فيها هو ليل الارض، ولكن في سوره النازعات تاتي الاشاره الي ليل اخر هو ليل السماء الذي يصفه الحق( سبحانه) بقوله: اانتم اشد خلقا ام السماء بناها* رفع سمكها فسواها* واغطش ليلها واخرج ضحاها* ( النازعات:27 29)
وضمير الغائب في كلمه( ليلها) الوارده في الايه رقم(29) من سوره النازعات عائد علي السماء حقا، واغطش ليلها اي اظلمه( من الغطش وهو العمش، او التعامي عن الشيء، ولذلك يقال: فلاه غطشي اي لا يهتدي فيها، واستعير ذلك للظلمه التي لا يهتدي فيها لشيء).
ومعني الايه الكريمه ان الله( تعالي) قد جعل السماء حالكه السواد من شده اظلامها، فهي في ليل دائم سواء اتصل ليلها بليل الارض( في نصف الكره الارضيه التي يعمها الليل) او انفصل ليل السماء عن الارض بطبقه النهار في نصف الارض المواجه للشمس، وهي طبقه لا يتعدي سمكها مائتي كيلو متر فوق مستوي سطح البحر، فاذا قيست بالمسافه المتوسطه بين الارض والشمس والمقدره بحوالي المائه وخمسين مليون كيلو متر، او بنصف قطر الجزء المدرك من الكون والمقدر باكثره من عشره بلايين من السنين الضوئيه اتضح مدي رقه طبقه نور النهار علي نصف الارض المواجه للشمس اذا قورن بظلمه الكون او بما سماه القران الكريم باسم ليل السماء.
كذلك فاننا نجد في لفظه( ضحاها) الوارده في نفس الايه الكريمه رقم(29) من سوره النازعات والتي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):.. واخرج ضحاها ان ضمير الغائب يعود علي السماء، ويصبح ضحي الارض هو ضحي السماء، وهو النطاق السفلي من الغلاف الغازي للارض الي ارتفاع مائتي كيلو متر من مستوي سطح البحر المحيط بنصف الكره الارضيه المواجه للشمس والذي ينعكس فيه ضوء الشمس ويتشتت علي ملايين الجسيمات الصلبه والسائله والغازيه في هذا الجزء من الغلاف الغازي للارض من مثل هباءات الغبار وقطيرات الماء وبخاره وجزيئات النيتروجين والاوكسجين وثاني اكسيد الكربون وغيرها فتتحول موجات الطاقه القادمه من الشمس الي هذا النور الابيض المبهج ومايصاحبه من دفء في نهار الارض، فتدركه احاسيس المشاهدين من اهلها.
والضحي في الاصل هو انبساط الشمس في الجزء الشرقي من سماء الارض وامتداد النهار الي الظهيره، ثم سمي به الوقت المعروف باسم صدر النهار، حين ترتفع الشمس( في حركتها الظاهريه الناتجه عن دوران الارض حول محورها)، ويظهر نور النهار جليا للعيان في نصف الارض المواجه للشمس، بينما يبقي معظم الكون غارقا في ليل السماء الذي يلتقي بليل الارض في نصف الارض البعيد عن مواجهه الشمس، وكذلك الحال بالنسبه لكواكب السماء التي لها غلاف غازي مقارب الي الغلاف الغازي للارض.
من اقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي): والليل اذا يغشاها*
* ذكر ابن كثير( رحمه الله رحمه واسعه) مانصه:... وقالوا في قوله تعالي:( والليل اذا يغشاها) يعني اذ يغشي الشمس حين تغيب فتظلم الافاق...
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه:( والليل اذا يغشاها) يغطيها بظلمته، و( اذا) في الثلاثه لمجرد الظرفيه( فلا تفيد الشرطيه)، والعامل فيها فعل القسم( المقدر: اقسم).
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعه جزاء ماقدم) مانصه:... والتغشيه هي مقابل التجليه. والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه، وهو مشهد له في النفس وقع، وله في حياه الانسان اثر كالنهار سواء.
* وجاء في صفوه البيان لمعاني القران( علي صاحبه من الله الرحمات) مانصه:
... اي يغشي الشمس فيغطي ضوءها، او يغشي الدنيا بظلمته.
* وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم( جزاهم الله جميعا خير الجزاء علي ماقدموا) مانصه: وبالليل اذا يغشي الشمس، فيغطي ضوءها.
* وجاء في صفوه التفاسير( جزي الله كاتبها خيرا) مانصه:
... اي واقسم بالليل اذا غطي الكون بظلامه، ولفه بشبحه، فالنهار يجلي المعموره ويظهرها، والليل يغطيها ويسترها...
الدلاله العلميه للايه الكريمه
السياق القراني الكريم في مطلع سوره الشمس واضح الدلاله علي ان ضمير الغائب في الايات الاربع الاولي من هذه السوره المباركه يعود علي الشمس، وكان هذا واضحا للمفسرين السابقين من الناحيه اللغويه دون ادني شك، ولكن صعوبه فهم كيفيه تجليه النهار للشمس، وكيفيه غشيان الليل لها دفع بعدد من المفسرين الي نسبه ضمير الغائب في الايتين الثالثه والرابعه الي الارض او الي السماء او الي الكون، وذلك لان الناس منذ الازل يومنون بان الشمس هي التي تجلي النهار، ولم يكن احد من الخلق يتصور امكانيه ان يكون النهار هو الذي يجلي الشمس...!! ولكن بعد رياده الفضاء اتضح للعلماء ان طبقه النهار التي تحيط بنصف الكره الارضيه المواجه للشمس هي طبقه رقيقه جدا لا يتعدي سمكها المائتي كيلو متر فوق مستوي سطح البحر، واذا قورن هذا السمك بطول المسافه الفاصله بين الارض والشمس والمقدره بحوالي المائه والخمسين مليون كيلو متر في المتوسط اتضحت لنا الرقه الشديده لطبقه النهار الارضي وتحركها باستمرار مع دوران الارض حول محورها امام الشمس، وجريا معها في مدارها حول هذا النجم...!! كذلك اذا قورن سمك طبقه النهار الارضي بنصف قطر الجزء المدرك لنا من الكون( والمقدر باكثر من عشره بلايين من السنين الضوئيه) زاد احساسنا بضاله سمك طبقه النهار علي اهميتها البالغه ، وثبت لنا ان الاصل في الجزء المدرك لنا في الكون هو الاظلام التام بالنسبه للانسان، ومعني ذلك ان ضوء الشمس لا يري بواسطه الانسان الا في طبقه النهار الارضي الرقيقه حيث يتم انعكاس وتشتت هذا الضوء علي ملايين الهباءات من الغبار، وقطيرات الماء وبخاره، وجزيئات النيتروجين والاوكسجين وثاني اكسيد الكربون وغيرها من مكونات هذا الجزء السفلي من الغلاف الغازي للارض.
ولما كانت هذه المكونات تتضاءل كما وكثافه حتي تكاد تتلاشي، وذلك بالارتفاع في الغلاف الغازي للارض لاكثر من مائتي كيلو متر، فان الشمس تري بعد هذا الارتفاع علي هيئه قرص ازرق في صفحه سوداء وبذلك ثبت لنا ان الاصل في الكون هو الاظلام، وان نور النهار هو نعمه من الله الخالق من بها علي عباده وخلقه من اهل الارض، وان فتره النهار علي الارض وهي فتره المواجهه مع الشمس هي التي تجلي لنا الشمس بما تحدثه من تردد انعكاس ضوء الشمس وتشتيته علي مابها من بلايين الجسيمات الصلبه والسائله والغازيه في الجزء السفلي من الغلاف الغازي للارض، ولولا ذلك ماكان نور النهار، وماامكن للانسان ان يري الشمس التي لا يجليها لنا بامر ربها الا طبقه النهار من الغلاف الغازي للارض، وهذه حقائق لم يمكن ادراكها الا بعد رحلات الفضاء التي ابتدات منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين وورودها في كتاب الله الذي انزل من قبل الف واربعمائه عام علي نبي امي( صلي الله عليه وسلم)، وفي امه كانت غالبيتها الساحقه من الاميين، وفي زمن لم يكن لاحد من الخلق ادراك ولو طفيفا لتلك الحقيقه لمما يشهد للقران الكريم بانه كلام الله الخالق، كما يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوه وبالرساله.
ولكون الاظلام هو الامر السائد في السماء، فقد وصفه ربنا( تبارك وتعالي) باسم ليل السماء تمييزا له عن ليل الارض فقال( عز من قائل): اانتم اشد خلقا ام السماء بناها* رفع سمكها فسواها* واغطش ليلها واخرج ضحاها* ( النازعات:27 29)
وضمير الغائب في كل من اللفظين( ليلها) و(ضحاها) عائد علي السماء كما اسلفنا، وعلي ذلك فالسماء في ليل دائم، وهو ليل مختلف عن ليل الارض وان اتصلا علي نصف الارض البعيد عن مواجهه الشمس، وينفصل ليل السماء عن نهار الارض بطبقه نور النهار الرقيقه التي تعتبر في بدء تكونها ضحي للارض، وهي في نفس الوقت ضحي للسماء. ولذلك قال ربنا( تبارك وتعالي) في سوره النازعات واغطش ليلها واخرج ضحاها* وقال في سوره الشمس: والليل اذا يغشاها*
والليل في الايتين هو ليل السماء لانه هو الذي يغشي الشمس ويظلم السماء، اما ليل الارض فلا علاقه له باغشاء الشمس لانه يمثل ظل نصف الارض المواجه للشمس، وان اتصل بظلمه السماء. فليل الارض هو الفتره الزمنيه من الاظلام التي تعتري نصف الارض البعيد عن مواجهه الشمس، وهو اظلام موقت متحرك مع حركه دوران الارض حول محورها امام الشمس، اما ليل السماء فهو اظلام دائم يبدو فيه موقع الشمس قرصا باهت الزرقه في صفحه سوداء حالكه السواد، وكذلك تبدو مواقع النجوم علي هيئه نقاط متباعده باهته الزرقه في صفحه سوداء، والسبب في ذلك هو التناقص الشديد في كثافه الماده بين الكواكب وفيما بينها وبين الشمس والماده بيننا وبين الشمس عباره عن خليط من الغازات الخفيفه من مثل غاز الايدروجين المتاين( علي هيئه بروتون موجب واليكترون سالب منفصلين عن بعضهما) وكذلك نوي بعض ذرات الهيليوم وبعض الجسيمات الصلبه من الغبار المتناهي الدقه، وتقدر كثافه الماده بين الارض والشمس بحوالي جزء من مائه الف مليون مليون جزء من الجرام للسنتيمتر المكعب(10 23 جرام/ سم3) الي مائه ضعف ذلك اي جزء من الف مليون مليون مليون جزء من الجرام للسنتيمتر المكعب(10 21 جرام/ سم3) علي الرغم من وجود كميه ضئيله من الهباءات الترابيه المتناهيه الدقه.
من هنا يغشي ليل السماء الشمس كما يغشي ليل الارض ويلتحم به، ومن هنا كانت هذه الاشاره المعجزه في سوره الشمس والتي يقسم فيها ربنا( تبارك وتعالي) وهو الغني عن القسم بالليل اذ يغشي الشمس، وهو هنا ليل السماء لان ليل الارض ابعد من ان يطول الشمس وان التحم مع ليل السماء.
هذه الحقائق لم تتوصل اليها العلوم المكتسبه الا بعد رياده الفضاء في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وورودها في القران الكريم الذي انزل من قبل الف واربعمائه سنه بهذه الدقه والاحاطه التي توكد ظلمه الكون في عدد غير قليل من الايات، كما توكد رقه طبقه النهار، ووضوح الشمس فيه، وتمايز بين كل من ليل الارض وليل السماء، وتوكد ان الذي يغشي الشمس هو ليل السماء، وان الذي يجليها هو نهار الارض، وتساوي بين ضحي الارض وضحي السماء، وتجعل منهما شيئا واحدا، وتجمع بين ليل الارض وليل السماء، وتجعل منهما شيئا متواصلا كل ذلك ايات بينات لكل ذي بصيره علي ان القران الكريم هو كلام الله الخالق، وان الرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والارض، فسبحان الذي انزل القران.. انزله بعلمه، علي خاتم انبيائه ورسله، وسبحان الذي حفظه علي مدي هذه القرون الاربعه عشر بنفس لغه وحيه( اللغه العربيه) والي ان يرث الله الارض ومن عليها، وابقي لنا فيه من جوانب الاعجاز الذي لا يحصي ولا يعد مايمكنه من محاجه اهل كل عصر، وان يخاطبهم بما برعوا فيه ويقيم الحجه عليهم مهما اتسعت دوائر معارفهم، وتشعبت تخصصاتهم.
فالحمد لله علي نعمه الاسلام، والحمد لله علي نعمه القران، والصلاه والسلام تامان اكملان علي خاتم الانبياء والمرسلين الذي تلقي هذا الوحي الكريم فبلغ الرساله وادي الامانه، ونصح البشريه، وجاهد في سبيل الله حتي اتاه اليقين، فنسال الله( تعالي) ان يجزيه خير ماجزي به نبيا عن امته، ورسولا علي حسن تبليغ رسالته اللهم امين، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
إرسال تعليق