اخر الاخبار

breaking/مقالات الدكتور/9
مقالات الدكتور

10:04 ص

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 15 يوليو 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"

أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‏..‏
هذا النص القراني المعجز جاء في مقدمات سوره البقره‏، وهي سوره مدنيه‏، واياتها‏286، وعلي ذلك فهي اطول سور القران الكريم علي الاطلاق‏، وقد سميت بهذا الاسم لورود قصه بقره بني اسرائيل فيها‏، وتتلخص في ان يهوديا قتل في زمن نبي الله موسي‏، ولم يعرف قاتله‏، فعرض الامر علي موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ لعله يستطيع المعاونه في الكشف عن القاتل‏، فاوحي الله‏(‏ تعالي‏)‏ اليه ان يامر القوم بذبح بقره‏، وان يضربوا الميت بجزء منها فيحيا باذن الله ويخبرهم عن قاتله‏، وبعد لاي طويل فعل قومه ذلك‏، وتحقق ما وعدهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ به كي تكون تلك الواقعه برهانا عمليا امام اعينهم علي امكانيه البعث‏، وقد كانوا من المتشككين فيه او المكذبين لامكانيه وقوعه‏...!!‏
ويدور المحور الرئيسي للسوره حول الاحكام التشريعيه في العقائد والعبادات والاخلاق والمعاملات‏، وهي صلب الدين‏.‏
ومن اسس العقيده الاسلاميه التي دعت اليها السوره الكريمه‏:‏ الايمان بان القران الكريم هو الصوره النهائيه التي تكاملت فيها كل رسالات السماء السابقه‏، وانه كتاب لا ريب فيه‏، وانه هدي للمتقين الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاه‏، ومما رزقهم الله ينفقون‏، والذين يومنون بما انزل الي خاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)، وما انزل من قبله وبالاخره هم يوقنون‏.‏
وهذه الركائز الاساسيه للدين ترددت في ثنايا السوره مرات عديده‏، موكده حتميه الايمان بالله الواحد الاحد‏، الفرد الصمد‏، الذي لم يلد ولم يولد‏، ولم يكن له كفوا احد‏، الذي لا شريك له في ملكه‏، ولا منازع له في سلطانه‏، ولا شبيه له من خلقه‏، وذلك من اجل النجاح في الدنيا‏، والنجاه في الاخره‏، وتعرض السوره لشيء من صفات هذا الخالق العظيم‏...‏ تنزيها لجلاله عن الشبيه والشريك والمنازع‏، وتقديسا لالوهيته وربوبيته ووحدانيته‏.‏
وتوكد السوره الكريمه حتميه الايمان بملائكه الله‏، وكتبه ورسله دون ادني تفرقه بينهم‏، والايمان بالبعث وبالحساب في الاخره‏، وبالخلود في الجنه ابدا او في النار ابدا‏، وهذه كلها من امور الغيب المطلق التي لا سبيل للانسان في الوصول اليها الا ببيان من الله‏، بيانا ربانيا خالصا لا يداخله ادني قدر من التصورات البشريه‏.‏
وفي مجال العبادات‏، ركزت سوره البقره علي تفصيل احكام الطهاره‏، والصلاه‏، والزكاه‏، والصوم‏، والحج‏، والعمره‏، والجهاد في سبيل الله‏، وعلي تعظيم حرمه كل من البيت الحرام والاشهر الحرم‏، وبينت المحرمات من الطعام والشراب والسلوكيات‏، وان كل ما عدا المحرمات من الطعام والشراب يوكل ويشرب حلالا طيبا‏.‏ وكذلك تامر السوره الكريمه بالانفاق في سبيل الله‏، وبالاحسان الي الخلق‏.‏
وفي جانب المعاملات‏، اوضحت سوره البقره احكام الزواج‏، والطلاق‏، والعده‏، والرضاع‏، والقصاص‏، والوصيه‏، والدين‏، والرهن‏، والنذور‏، والصدقات‏، وحقوق الايتام‏، وغير ذلك من المعاملات الماليه‏.‏
وحذرت السوره الكريمه من متابعه الكفار والمشركين والمنافقين‏، خاصه من كان منهم من اهل الكتاب الذين حرفوا دينهم‏، وكذبوا علي رب العالمين‏، واوهموا انفسهم زورا انهم شعب الله المختار‏، وابناوه واحباوه‏، وان لهم عند رب العالمين ما ليس لغيرهم من المخلوقين من امثال اليهود المجرمين‏، الذين كانوا ركازه الكفر عبر التاريخ‏، فوقفوا حجر عثره امام كل دعوه ربانيه صحيحه‏، وحاربوا الرساله الخاتمه التي بعث بها النبي الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فعارضوه‏، ونقضوا كل عهودهم معه‏، وتحالفوا مع عبده الاوثان ضده‏، ولايزالون هكذا الي اليوم‏، والي ان يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الارض ومن عليها‏...‏ يمثلون ابشع صور الكفر‏، والظلم والنفاق‏، وسوء الاخلاق وكراهيه الحق‏، وبغض الانسانيه والاستعلاء كذبا عليها‏، والتامر ضدها تامر الشياطين الملاعين ما وسعهم الي ذلك سبيلا‏.‏
وتحدثت سوره البقره عن عدد من صفات المتقين‏، وعن بعض صفات المنافقين من الكفار والمشركين‏، وضربت نماذج لكل من الطائفتين‏، كما عرضت لشيء من وصف نعيم المتقين في الجنه‏، ولعذاب كل من الكافرين والمشركين في النار‏، وقد ماتوا علي كفرهم او شركهم‏، ولذلك فسوف يخلدون فيها‏..!!‏ وتصف السوره جانبا من ذلهم وحيرتهم يوم القيامه‏..!!‏
وفي هذه السوره الاولي في ترتيب المصحف الشريف بعد فاتحه الكتاب‏، جاء عرض رائع لقصه ادم‏(‏ عليه السلام‏)‏ من لحظه خلقه‏، وخلق امنا حواء‏(‏ رضي الله عنها‏)‏ الي لحظه هبوطهما علي الارض‏.‏
وفي اكثر من ثلث هذه السوره المباركه‏، جاء الحديث عن عصاه اليهود من بني اسرائيل‏(‏ لعنهم الله في الدنيا والاخره‏)، وعن حقاره نفوسهم‏، وخبث نواياهم‏، وشيطانيه مكرهم‏، وخطوره كيدهم‏، ولومهم‏، وغدرهم‏،وتحريفهم لدينهم‏، وكذبهم علي الله‏، ورسله‏، ومحاربتهم لاوليائه‏، وخياناتهم لكل الوعود والعهود والمواثيق التي يقطعونها علي انفسهم‏، وتزييفهم للحق‏، ونصرتهم للباطل‏، وغير ذلك مما جبلت عليه نفوسهم الشيطانيه الشريره من كفر بالله وشرك به‏، وكراهيه للخلق وتامر عليهم‏، ورغبه دفينه في ايذاء الاخرين وتدميرهم‏، علي الرغم من ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ كان قد نجاهم من ال فرعون الذين ساموهم سوء العذاب‏، الا انهم عبدوا العجل‏، وحرفوا الدين‏، وكتموا ما انزل الله من كتاب‏، واشتروا به ثمنا قليلا‏.‏
كذلك اشارت سوره البقره‏، الي اختلاف اتباع عيسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ من بعده فمنهم من امن ومنهم من كفر‏، وعرضت لجانب من قصه ابراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع النمرود‏(‏ عليه اللعنه‏)، وكذلك لقصته مع قضيه البعث‏.‏
وتحدثت سوره البقره‏، عن واقعه تحويل القبله‏، واكدت ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل امه الاسلام امه وسطا ليكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا‏.‏
وتامر السوره الكريمه في العديد من مقاطعها بالجهاد في سبيل الله دون اعتداء‏، وتعظم منازل الشهداء‏، ومنازل كل من الصابرين في الباساء والضراء‏، والموفين بعهودهم اذا عاهدوا‏.‏
وتدعو سوره البقره في كثير من اجزائها‏، الي التامل بعين البصيره في ايات الله العديده المنتشره في كل من الارض والسماء‏، وتنهي عن اتباع الشيطان لانه عدو مبين للانسان‏، كما تنهي عن اخذ الدين بالميراث‏، اي بالاتباع الاعمي لما عليه الوالدان من دين‏، دون تمعن وتدبر واحتكام للعقل واقتناع بصحه ما يعتنقه الفرد‏، وتنهي كذلك عن التداول بالمال الحرام‏، وعن رشوه الحكام‏، وعن التعامل بالربا‏، وعن تناول الخمر‏، ولعب الميسر‏، وعن اكل مال اليتيم‏، وعن التزاوج بين المسلمين والمشركين‏، وتامر باعتزال النساء في المحيض‏، وتكرر الحض علي الانفاق في سبيل الله‏، وتوكد ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يوتي الحكمه من يشاء‏، وان من يوتاها فقد اوتي خيرا كثيرا‏، وتحذر الناس من يوم يرجعون فيه الي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏*، وتضع ضوابط للتعامل بالدين في ايه تعتبر اطول ايات القران الكريم‏، وتحذر من كتم الشهاده‏..‏ ومن يكتمها فانه اثم قلبه والله بما تعملون عليم‏*.‏
وتختتم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
لله ما في السماوات وما في الارض وان تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله علي كل شيء قدير‏*‏ امن الرسول بما انزل اليه من ربه والمومنون كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله‏، وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير‏*‏ لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏، ربنا لا تواخذنا ان نسينا او اخطانا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته علي الذين من قبلنا‏، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين‏*.‏ ‏(‏البقره‏:284‏ ‏286)‏
وهو دعاء يهز القلوب والعقول‏، ويحرك الارواح والمشاعر لما فيه من معاني الخضوع التام لله وحده بالعبوديه‏، والاقرار له وحده بالالوهيه والربوبيه‏، دون الشبيه او الشريك او المنازع‏، والايمان به‏(‏ تعالي‏)‏ وبملائكته وكتبه ورسله وباطلاعه علي خائنه الاعين وما تخفي الصدور‏، وتاكيد وحده الرساله السماويه دون ادني تفرقه بينهم‏.!!‏ ثم طلب العفو‏، والمغفره‏، والرحمه من الله‏(‏ تعالي‏)‏ وطلب النصر منه علي كافه انماط الكفار والمشركين من امثال الصهاينه المعتدين الغاصبين المتجبرين علي اخواننا الفلسطينيين العزل الامنين علي ارض فلسطين‏، واشياعهم من النصاري المتهودين كالامريكان المتغطرسين بقوتهم الماديه علي كافه شعوب الارض‏، ومالهم جميعا الدمار الكامل في الدنيا‏، والخلود في نار جهنم في الاخره ان شاء الله رب العالمين‏، وما ذلك علي الله بعزيز اللهم امين‏..‏ امين‏..‏ امين يارب العالمين‏.‏
والايات الكونيه التي جاءت الاشاره اليها في سوره البقره عديده‏، نختار منها ما يلي‏:‏
‏(1)(‏ الصيب‏)‏ وهو المطر الغزير المصحوب بالرعد والبرق والصواعق والعواصف والذي يكثر في ظلام الليل‏.‏
‏(2)‏ امكانيه ان يخطف البرق بصر الذين يحملقون فيه‏.‏
‏(3)‏ تقديم حاسه السمع علي حاسه الابصار في العديد من اي القران الكريم‏، كما هو الحال في هذه السوره المباركه‏(‏ الايه رقم‏40).‏
‏(4)‏ فرش الارض وبناء السماء باذن الله‏.‏
‏(5)‏ حقيقه الخلق‏.‏
‏(6)‏ انزال الماء من السماء‏، واحياء الارض به ان شاء الله‏(‏ تعالي‏)، ونمو النباتات ونضج ثمارها بنزوله باذن الله‏.‏
‏(7)‏ انزال القران الكريم معجزه لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)، الي قيام الساعه‏، وحفظه بنفس لغه وحيه‏(‏ اللغه العربيه‏)‏ كلمه كلمه‏، وحرفا حرفا دون ادني تغيير او تحريف او تبديل كما حدث في الرسالات السابقه‏.‏
‏(8)‏ حقيقه الخلق من العدم‏، والافناء الي العدم‏، ثم الخلق من جديد‏.‏
‏(9)‏ حقيقه خلق كل ما في الارض قبل تسويه السماء الي سبع سماوات‏.‏
‏(10)‏ وصف تفجر الحجاره بالانهار‏، وتشققها فيخرج منها الماء‏.‏
‏(11)‏ خلق السماوات والارض‏.‏
‏(12)‏ اختلاف الليل والنهار‏.‏
‏(13)‏ جري الفلك في البحر‏.‏
‏(14)‏ خلق الحياه وبثها في الارض‏.‏
‏(15)‏ تصريف الرياح‏.‏
‏(16)‏ تسخير السحاب بين السماء والارض‏.‏
‏(17)‏ تحريم الميته والدم ولحم الخنزير وما اهل به لغير الله‏.‏
‏(18)‏ الاهله مواقيت للناس والحج‏.‏
‏(19)‏ تحريم كل من الخمر والميسر‏.‏
‏(20)‏ الامر باجتناب النساء في وقت المحيض‏.‏
‏(21)‏ التشبيه بقوله‏(‏ تعالي‏):..‏ كمثل جنه بربوه اصابها وابل فاتت اكلها ضعفين‏.‏
‏(22)‏ التشبيه بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):..‏ فاصابها اعصار فيه نار فاحترقت‏...*.‏
‏(23)‏ تحريم الربا‏.‏
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه مستقله‏، خاصه بها‏، ولذلك فسوف اقصر حديثي هنا علي القضيه الاولي من القضايا المسروده في هذه القائمه‏، والتي يشبه الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيها موقف المنافقين من امثال اليهود المجرمين الذين امنوا ثم كفروا‏، بالذي انتقل من النور الي الظلام‏، ومن البصيره الي العمي‏، ومن الهدايه الي الضلال‏، ومن الرشد الي الغي‏، فترك في ظلمات الشك والحيره‏، والكفر او الشرك‏، والنفاق والضياع‏، لا يهتدي الي خير‏، ولا يدرك طريقا للنجاه‏، ولذلك قال‏(‏ تعالي‏)‏ فيهم‏:‏
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما اضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏*‏ صم بكم عمي فهم لا يرجعون‏*‏ او كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون اصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين‏*‏ يكاد البرق يخطف ابصارهم كلما اضاء لهم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وابصارهم ان الله علي كل شيء قدير‏* ‏(‏البقره‏:17‏ ‏20).‏
وقبل عرض الدلاله العلميه للتعبير القراني او كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‏..*، لابد من استعراض سريع لاقوال عدد من المفسرين فيه‏.‏

من اقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏ او كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‏..*(‏ البقره‏:19).‏
ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ هذا مثل اخر ضربه الله تعالي لضرب اخر من المنافقين‏، وهم قوم يظهر لهم الحق تاره ويشكون تاره اخري‏، قلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم‏(‏ كصيب‏)‏ والصيب‏:‏ المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق‏، و‏(‏رعد‏):‏ وهو ما يزعج القلوب من الخوف‏، فان من شان المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالي‏:(‏ يحسبون كل صيحه عليهم‏)..(‏ وبرق‏)‏ هو ما يلمع في قلوب هولاء الضرب من المنافقين في بعض الاحيان من نور الايمان‏....‏
وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله‏)‏ ما نصه‏:(‏ او‏)‏ مثلهم‏(‏ كصيب‏)‏ اي‏:‏ كاصحاب مطر‏، واصله صيوب من صاب يصوب‏، اي‏:‏ نزل ينزل‏(‏ من السماء‏)‏ السحاب‏(‏ فيه‏)‏ اي‏:‏ السحاب‏(‏ ظلمات‏)‏ متكاثفه‏(‏ ورعد‏)‏ وهو الملك الموكل به‏، وقيل صوته‏(‏ وبرق‏)‏ لمعان سوطه الذي يزجره به‏....‏
وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمه واسعه‏)‏ ما نصه‏:‏
انه مشهد عجيب‏، حافل بالحركه‏، مشوب بالاضطراب‏...‏ ان الحركه التي تغمر المشهد كله‏:‏ من الصيب الهاطل‏، الي الظلمات والرعد والبرق‏، الي الحائرين المفزعين فيه‏، الي الخطوات المروعه الوجله‏، التي تقف عندما يخيم الظلام‏...‏ ان هذه الحركه في المشهد لترسم عن طريق التاثر الايحائي حركه التيه والاضطراب والقلق والارجحه التي يعيش فيها اولئك المنافقون‏....‏
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران‏(‏ رحم الله كاتبه برحمته‏)‏ ما نصه‏:(‏ او كصيب من السماء‏)‏ الصيب كسيد ‏:‏ المطر‏، من الصوب وهو النزول‏، يقال‏:‏ صاب صوبا‏، اذا نزل وانحدر‏، سمي به المطر لنزوله‏، اي كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء‏، وهي جهه العلو والمراد السحاب‏، وهو مثل اخر للمنافقين‏، يصف حيرتهم وشده الامر عليهم‏،(‏ فيه ظلمات ورعد وبرق‏)‏ تصحب الامطار الشديده التي تحدث عند تكاثف السحب في السماء وحجبها ضوء الشمس عن الارض ظلمات كانها سواد الليل‏، ورعد يصم الاذان‏، وبرق يخطف الابصار‏، وصواعق تحرق ما تصيبه‏....‏
وذكر كل من اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم وغيرهم من المفسرين‏، كما ذكر صاحب صفوه التفاسير‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ كلاما مشابها لا داعي لتكراره هنا‏.‏

الدلاله العلميه للايه الكريمه
هذا الوصف القراني المعجز‏، الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالي‏:‏ او كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‏..*‏ ينطبق علي الاعاصير الرعديه العنيفه‏، وهي اعاصير حلزونيه‏، دواره‏، عنيفه الحركه والسرعه‏، ولذلك تعرف باسم الاعاصير الدواره‏ Cyclones وهي كتل من الهواء تدور حول منطقه من مناطق الضغط المنخفض في عكس اتجاه عقارب الساعه في نصف الكره الشمالي‏، وفي اتجاهها تماما في نصف الكره الجنوبي‏، وتتحرك هذه الاعاصير بسرعات فائقه تزيد علي‏73‏ ميلا في الساعه‏، وقد تصل الي‏130‏ ميلا في الساعه او الي سرعات اعلي‏.‏ ولذلك فهي اعاصير عنيفه‏، مدمره‏، تصاحب غالبا بتلبد السماء بالغيوم الداكنه السميكه القريبه من سطح الارض‏، والتي تحجب اشعه الشمس بالنهار‏، ونور القمر والنجوم بالليل‏، محدثه ظلمه قابضه‏.‏
وتصاحب هذه الظلمه بحدوث كل من ظاهرتي البرق والرعد‏، وهطول الامطار بغزاره شديده‏، وهذا ما تصفه الايه الكريمه بدقه علميه بالغه‏، علي الرغم من ورودها في مقام التشبيه‏.‏
ونظرا لانتشار هذه الاعاصير في المناطق المداريه‏، فقد سميت باسم الاعاصير المداريه الدواره‏ Tropical Cyclones وقد عرفت باسماء اخري في كل منطقه من تلك المناطق المداريه‏، منها اسم هريكين‏ Hurricane في الامريكتين‏، واسم تيفون‏ Typhoon في مناطق بحر الصين‏(‏ وهي لفظه صينيه تعني الرياح الكبيره‏)، واذا كانت محدده المساحه علي اليابسه فانها تاخذ اشكالا قمعيه ولذا تعرف باسم الدوامات الهوائيه القمعيه او التورنادو‏ Tornadoes وهي من اصغر تلك الاعاصير حجما واكثرها تدميرا‏.‏
والاعاصير ليست مقصوره علي المناطق المداريه وان سادت فيها‏، وذلك لانها تحدث ايضا في مناطق العروض الوسطي‏، وهذه الاعاصير لم تعرف صفاتها‏، ولم يتم تصنيفها الا في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏، ووصفها بهذه الدقه العلميه البالغه من قبل اثني عشر قرنا علي الاقل‏، لمما يقطع بان القران الكريم هو كلام الله الخالق‏، ويشهد لهذا النبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوه وبالرساله فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي اله وصحبه‏، ومن تبع هداه‏، ودعا بدعوته الي يوم الدين رغم انف المارقين من الكفار والمشركين في كل عصر ومصر وفي كل حين‏...!!‏

الاعاصير المداريه
تتكون الاعاصير المداريه بين خطي عرض‏5‏ و‏20‏ درجه شمال وجنوب خط الاستواء‏، وتنشا بدوران الهواء البارد حول مناطق الضغط المنخفض التي تتكون بالتسخين المحلي في بعض المناطق وبتوافر بقيه الظروف اللازمه لتكون تلك الاعاصير ومن بينها هدوء الهواء وسكونه او قله تحركه‏، ويودي ذلك الي تسخين طبقه الهواء الملامسه لسطح الارض‏(‏ سواء كان ذلك يابسه او ماء‏)‏ فتتمدد الي اعلي ليحل محلها تيارات من الهواء البارد‏، مما يودي الي حدوث حاله من عدم الاستقرار في هواء المنطقه‏.‏
وكلما زاد عمق منطقه الضغط المنخفض‏، وزادت شده انحدار جوانبها بزياده الفرق بين ضغطها‏، والضغوط المحيطه بها‏، زاد الاعصار عنفا‏، فتدور حولها الرياح بسرعات فائقه تصل الي قرابه الثلاثمائه كيلومتر في الساعه‏، بينما يكون الهواء الساخن في مركزها ساكنا تقريبا‏.‏
وتتوافر ظروف تكون هذه الاعاصير بصفه خاصه في منطقه الركود الاستوائي‏، حيث تتقابل الرياح التجاريه في نصفي الكره الارضيه مندفعه باتجاه منطقه الضغط المنخفض وما بها من هواء ساخن يتجدد ويتصاعد الي اعلي باستمرار‏، ومنحرفه الي يمين اتجاهها في نصف الكره الشمالي‏، والي يسار اتجاهها في نصفها الجنوبي‏، وذلك بسبب دوران الارض حول محورها‏.‏
ولذلك تنشا هذه الاعاصير بصفه خاصه فوق البحار الاستوائيه والمداريه في فصلي الصيف والخريف‏، ويصل قطر الدوامه الواحده منها الي خمسمائه كيلومتر‏، ويصل قطر مركزها الذي يسمي عين الاعصار الي اربعين كيلومترا‏، وتتراوح مدد مكث تلك الاعاصير بين عدد قليل من الايام واكثر من اسبوعين‏.‏
وتصاحب الاعاصير المداريه عاده بتكون السحب الداكنه الكثيفه والقريبه من سطح الارض‏، وبسقوط الامطار الغزيره المصاحبه بظاهرتي البرق والرعد‏.‏
ومما يساعد علي استمرار ارتفاع الهواء الساخن في مناطق الركود الاستوائيه‏، ارتفاع نسبه الاشعاع الشمسي مما يوثر علي ارتفاع معدلات تبخر ماء البحار والمحيطات‏، وبالتالي الي ارتفاع نسبه الرطوبه في الهواء مما يعين علي تكوين السحب الكثيفه الداكنه باذن الله وعلي هطول الامطار الغزيره‏، حيث يشاء‏، وكلها من العمليات التي تتسبب في رفع درجات الحراره الكامنه في عين الاعصار‏، وفي استمرار تحرك الهواء الساخن الي اعلي‏، واندفاع الهواء البارد من المناطق المحيطه ليدور حوله او يحل محله‏.‏
والاعاصير المداريه تتكون اساسا فوق البحار والمحيطات‏، وعندما تندفع في اتجاه اليابسه تفقد كثيرا من سرعتها باحتكاكها مع سطح الارض‏، ولكنها تظل قادره علي احداث قدر هائل من الدمار من مثل هدم المباني والمنشات‏، والخسائر في الارواح والممتلكات‏، وحدوث السيول الجارفه‏، والفيضانات والامواج المغرقه للسفن والمنشات البحريه علي طول السواحل والي مسافات متباينه في عمق اليابسه‏.‏
وتكثر الاعاصير المداريه في كل من جزر الهند الغربيه‏، وسواحل فلوريدا‏، وخليج المكسيك‏، وفي بحر الصين وسواحل الجزر اليابانيه‏، وفي بقيه جزر المحيط الهادي وفي شرقي استراليا‏، وفي خليج البنغال‏، وفي جنوب المحيط الهندي‏.‏

الدوامات الهوائيه القمعيه الشكل
تطلق كلمه تورنادو‏ Tornado علي الدوامات الهوائيه القمعيه الشكل‏، وهي من الاعاصير المداريه الشديده الاثر والتي تضرب الاجزاء الجنوبيه من الولايات المتحده الامريكيه سنويا في مساحات صغيره من الارض قد لا يتعدي قطرها المائه متر‏، تدور فيها الرياح بسرعات مدمره حول مركز الاعصار الذي ينخفض الضغط الجوي فيه بدرجه قياسيه‏، وتصاحبه الامطار الغزيره المصحوبه بظاهرتي البرق والرعد في اشد صورهما‏.‏
وعند مرور هذه الدوامات الهوائيه القمعيه الشكل فوق ماء البحار والمحيطات‏، يرتفع سطح الماء الي اعلي علي هيئه مخروط يعرف باسم النافورات المائيه‏، يقابله مخروط من السحب يتدلي نحو سطح البحرفيحدث ظلمه شبه كامله‏، وتشكل هذه الظروف خطرا داهما يهدد السفن البحريه بالاغراق‏، وتحدث مثل هذه الدوامات الهوائيه القمعيه الشكل غالبا بعد الظهر في فصلي الربيع والصيف حين تبلغ درجات الحراره نهاياتها العظمي وتستمر بضع ساعات‏.‏
وتتحرك هذه الدوامات الهوائيه بسرعات كبيره تصل الي‏70‏ كيلومترا في الساعه‏، ولكن اثرها سرعان ما يتلاشي علي الرغم من قوتها التدميريه الكبيره‏، المتمثله في اقتلاع الاشجار وتحطيم المباني والمنشات علي اليابسه‏، وفي اغراق السفن في عرض البحار‏.‏

اعاصير العروض الوسطي
تنشا اعاصير العروض الوسطي بين خطي عرض‏35‏ و‏65‏ درجه في نصفي الكره الشمالي والجنوبي‏، حيث تنشا في النصف الشمالي من التقاء الرياح المداريه العكسيه‏(‏ الغربيه‏)‏ الدافئه الرطبه القادمه من الجنوب مع الرياح القطبيه البارده الجافه القادمه من الشمال‏، فتندفع الرياح البارده تحت الدافئه‏، رافعه اياها الي اعلي ومكونه سطح انفصال بين الكتلتين البارده والدافئه‏، يندفع فوقه الهواء الدافيء علي هيئه موجات تشكل كل واحده منها النواه الاولي لاعصار منخفض‏، ياخذ في النمو التدريجي مكونا منطقه من الضغط المنخفض فوق سطح الانفصال‏، يندفع فيها الهواء البارد محاولا الوصول الي مركزها باتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعه في نصف الكره الشمالي‏، ومعه في نصف الكره الجنوبي‏، ويظل الاعصار نشيطا حتي يتم هيمنه الهواء البارد علي قلب الاعصار فيبدا في التلاشي بالتدريج‏، وتصاحب اعاصير العروض الوسطي بتكون سحب رقيقه متفرقه علي ارتفاع كبير‏، تتزايد كثافه وسمكا وقربا من سطح الارض بتزايد الاعصار شده‏، حتي تتلبد السماء بالغيوم الداكنه الكثيفه فتحجب ضوء الشمس بالنهار‏، ونور القمر واضواء النجوم بالليل‏، وعندئذ يبدا هطول المطر بزخات خفيفه تتزايد بالتدريج مع حدوث البرق والرعد‏، حتي تنهمر الامطار بغزاره في جو من البروده الشديده والاضطرابات الجويه العديده‏، ثم ياخذ الجو في التحسن التدريجي بابتعاد مركز الاعصار ولكن تظل درجه الحراره مائله الي البروده النسبيه‏.‏
وتتفاوت اعاصير العروض الوسطي في احجامها‏، واعماق بورها‏، وفي شده انحدار جوانبها‏، فمنها ما لا يزيد قطره علي‏(300)‏ كيلومتر‏، ومنها ما يتجاوز ذلك‏(1500)‏ كيلومتر‏، ومنها ما هو شديد العمق وما هو ضحل‏، ومنها ما هو شديد الانحدار‏، وما هو قليله‏.‏
واثر هذه الاعاصير لا يقتصر علي حدود المنطقه التي تغطيها‏، ولكنه يمتد الي خارجها‏، ويتوقف ذلك علي عمق مركز الاعصار وعلي درجه انحدار جوانبه‏، اي‏:‏ علي تباين كل من الضغط ودرجه الحراره بين عين الاعصار وحوافه‏، والتي تتوقف عليها سرعه الرياح حول مركز الاعصار‏.‏
من هذا الاستعراض يتضح بجلاء ان الوصف القراني للاعاصير كما جاء في هذا النص القراني المعجز‏:‏
او كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‏...(‏ البقره‏:19).‏
ينطبق انطباقا كاملا علي الحقائق التي توصلت اليها المعارف المكتسبه في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه‏، والتي لم يدرك علم الانسان طرفا منها الا مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي‏.‏
وورودها في كتاب الله الذي انزل منذ اكثر من اربعه عشر قرنا بهذه الدقه العلميه الفائقه‏، والشمول الكامل‏، والاحاطه التامه لايمكن لعاقل ان يتصور له مصدرا غير الله الخالق‏(‏ تبارك وتعالي‏).‏
فسبحان الذي انزل القران الكريم‏، انزله بعلمه‏، علي خاتم انبيائه ورسله‏، وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم‏، والرسول الخاتم‏، الذي تلقي هذا الوحي الخاتم‏، فبلغ الرساله‏، وادي الامانه‏، ونصح الامه‏، وجاهد في سبيل الله حتي اتاه اليقين‏، فنسال الله‏(‏ تعالي‏)‏ ان يجزيه خير ما جازي به نبيا عن امته‏، ورسولا علي حسن تبليغ رسالته‏، والحمد لله اولا واخيرا علي حفظ القران العظيم‏، هذا الكتاب الكريم‏، بنفس لغه الوحي‏(‏ اللغه العربيه‏)، في صفائه الرباني‏، واشراقاته النورانيه‏، فجاء معجزا في كل امر من اموره‏، وفي كل ايه من اياته‏، وكلمه وحرف من كلماته وحروفه‏، ولو جاء ذلك في مقام ضرب المثل او التشبيه‏، حتي يبقي هذا الكتاب الخالد حجه علي الناس كافه الي قيام الساعه لا ينكره الا جاحد‏، ولا يتركه وراء ظهره الا شقي‏.‏

إرسال تعليق