اخر الاخبار

breaking/مقالات الدكتور/9
مقالات الدكتور

8:48 ص

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 1 يوليو 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم" 

...‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏....*‏

هذا النص القراني المعجز جاء في مطلع الثلث الاخير من سوره النمل‏، وهي سوره مكيه‏، واياتها ثلاث وتسعون‏، وقد سميت بهذا الاسم لورود الاشاره فيها الي قصه نبي الله سليمان مع هذه الحشره الضئيله الحجم‏، في وادي النمل‏، ولعل في ذلك ما يوكد لنا ان كل كائن في هذا الوجود من المخلوقات غير المكلفه له قدر من الادراك‏، والوعي‏، والايمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏)‏ في توحيد خالص‏، وخضوع كامل‏، وعباده فطريه‏، تسخيريه دائبه قد تقصر دونها عباده بعض المكلفين من الخلق‏، وذلك بغض النظر عن حجم ذلك الكائن‏، او طبيعته‏:‏ جمادا كان‏، او حيوانا او نباتا‏، وعلي الرغم من غفله كثير من الخلق المكلفين عن تلك الحقيقه المبهره‏....!!‏
ويدور المحور الرئيسي لسوره النمل حول قضيه العقيده واساسها الايمان بالله وحده‏، ولذلك تقرع اذان المشركين بهذا التساول الاستنكاري التبكيتي الرادع‏:‏ االه مع الله‏!‏؟
وقد تكرر هذا التساول خمس مرات بين ايات السوره الكريمه‏، وجاءت كل مره فيها بعد الاشاره الي عدد من الايات الكونيه التي تشهد للخالق العظيم بالالوهيه‏، والربوبيه والوحدانيه المطلقه فوق جميع خلقه‏، كما تشهد له‏(‏ سبحانه‏)‏ بطلاقه القدره‏، وبديع الصنعه‏، واحكام الخلق‏، وتمام الحكمه‏، واحاطه العلم‏، وياتي الجواب بعد كل تساول من تلك التساولات الخمسه اكثر زجرا واقوي ردعا بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ بل هم قوم يعدلون‏، بل اكثرهم لا يعلمون قليلا ما تذكرون‏، تعالي الله عما يشركون‏، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين‏.‏
وبعد استعراض اطراف من قصص الغابرين ياتي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ قل الحمد لله وسلام علي عباده الذين اصطفي ا لله خير اما يشركون‏*(‏ النمل‏:59)‏
ومن ركائز العقيده التي دار حولها المحور الرئيسي للسوره ايضا‏:‏ الايمان بان هذا الاله الواحد الذي لا شريك له في ملكه‏، ولا منازع له في سلطانه هو الخالق‏، الرزاق‏، العليم الحكيم واهب النعم‏، ومجري الخيرات‏، علام الغيوب‏، صاحب الحول والطول‏، منزل وحي السماء الذي تكامل في القران الكريم وحفظ فيه بوعد منه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ والايمان بالاخره‏، وبما فيها من بعث وحساب‏، وثواب وعقاب‏.‏
وتبدا سوره النمل بالحرفين الهجائيين طس اللذين اختص بهما مطلع هذه السوره الكريمه‏، وهذه الفواتح الهجائيه من اسرار القران الكريم التي يري نفر من علماء المسلمين افضليه التوقف عن الخوض في تفسير دلالاتها‏، وتفويض الامر فيها الي الله‏(‏ تعالي‏)، ويري نفر اخر ضروره الاجتهاد في فهم تلك الدلالات‏، فتعددت لها اوجه التفسير دون الوصول الي راي جامع في ذلك بعد‏.‏
وتوكد السوره الكريمه ان ايات القران الكريم هي الكتاب المبين‏، وانها جاءت‏:‏ هدي وبشري للمومنين‏*‏ الذين يقيمون الصلاه ويوتون الزكاه وهم بالاخره هم يوقنون‏*(‏ النمل‏:3،2).‏
ثم تنتقل السوره الي مقارنه بين المومنين بالاخره والذين لا يومنون بها‏، وتعرض لشيء من صفاتهم وجزائهم في الدنيا والاخره‏، وتوكد لخاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قدسيه ما يتلقاه من وحي فيقول‏:‏ وانك لتلقي القران من لدن حكيم عليم‏*(‏ النمل‏:6)‏

ثم تعرض سوره النمل لقصص عدد من انبياء الله‏، ولما نال الكافرين من اقوامهم من عذاب بسبب اعراضهم عن دعوه الله‏، وتكذيبهم لرسله‏، ومن هولاء موسي‏0‏ عليه السلام‏)‏ وكلام ربه‏(‏ تعالي‏)‏ اليه‏، وبعثه الي فرعون وقومه في تسع ايات‏، ومنهم كل من داود وسليمان‏(‏ عليهما السلام‏)‏ وما علمهما الله‏(‏ تعالي‏)‏ من علم‏، وما اتاهما من فضل‏، ومن ذلك قصه سليمان عليه السلام مع نمله في وادي النمل‏، ومع كل من الهدهد وبلقيس ملكه سبا‏.‏
كذلك جاءت سوره النمل علي ذكر طرف من قصه نبي الله لوط‏(‏ عليه السلام‏)‏ والفاحشين من قومه‏، وما اصاب هولاء الفاحشين من عذاب اليم‏، ونجاه لوط واهله الا امراته كانت من الغابرين‏.‏
وفي الرد علي منكري البعث تخاطب سوره النمل رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب الا الله وما يشعرون ايان يبعثون‏*‏ بل ادارك علمهم في الاخره بل هم في شك منها بل هم منها عمون‏*‏ وقال الذين كفروا ااذا كنا ترابا واباونا ائنا لمخرجون‏*‏ لقد وعدنا هذا نحن واباونا من قبل ان هذا الا اساطير الاولين‏*(‏ النمل‏65‏ ‏68).‏
وتتابع السوره الكريمه بالامر الالهي الي هولاء المكذبين بالدين ان يسيروا في الارض فينظروا كيف كانت عاقبه المجرمين من الامم السابقه‏، والذين ابيدوا عن بكره ابيهم جزاء اجرامهم وكفرهم وظلمهم‏، وان هذه هي عاقبه كل مجرم مفسد في الارض من امثال الصهاينه المجرمين الغاصبين لارض فلسطين والجائرين علي اهلها بالبطش والظلم ومن امثال الهندوس والبوذيين الظالمين لشعوبهم من المسلمين‏، وعاقبه الامريكان والبريطانيين والروس والصربيين والصينيين الخائنين المتامرين والمستبدين بشعوبهم وبشعوب الارض اجمعين‏....!!‏
وتامر الايات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كما تامرنا اليوم بامر الله‏(‏ تعالي‏)‏
ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون‏*(‏ النمل‏:70)‏
وترد السوره مره اخري علي شبهات المتشككين في الاخره والعمين عنها بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ويقولون متي هذا الوعد ان كنتم صادقين‏*‏ قل عسي ان يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون‏*‏ وان ربك لذو فضل علي الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون‏*(‏ النمل‏:71‏ ‏73)‏
وتوكد الايات في سوره النمل ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم ما تكن الصدور وما تعلن‏، ويعلم غيب السماوات والارض‏، وان هذا القران الكريم انزل تصحيحا لما حرف اليهود من رساله الله اليهم‏، وانه لهدي ورحمه للمومنين‏، وان الله‏(‏ تعالي‏)...‏ يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم‏*.‏
وتامر الايات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالتوكل علي الله‏، وتوكد له انه علي الحق المبين‏، وتفسر له رفض الكافرين لرسالته بانهم كالاموات بلا وعي ولا حراك او كالصم الذين لا يسمعون خاصه اذا ولوا مدبرين او كالعمي الذين لا يبصرون والغارقين في الضلال الي اذانهم ولذلك تقول‏:‏ فتوكل علي الله انك علي الحق المبين‏*‏ انك لا تسمع الموتي ولا تسمع الصم الدعاء اذا ولوا مدبرين‏*‏ وما انت بهادي العمي عن ضلالتهم ان تسمع الا من يومن باياتنا فهم مسلمون‏*(‏ النمل‏:79‏ ‏81)‏ وتوكد سوره النمل ان من العلامات الكبري للساعه خروج الدابه من الارض تكلم الناس وتعاتبهم علي عدم اليقين بايات الله فتقول‏:‏
واذا وقع القول عليهم اخرجنا لهم دابه من الارض تكلمهم ان الناس كانوا باياتنا لا يوقنون‏*(‏ النمل‏:82)‏
وتتحدث الايات عن مصائر المكذبين بايات الله يوم الحشر‏، وعن اثر نفخه الصور في كل من اهل السماء والارض فتقول‏:‏
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الارض الا من شاء الله وكل اتوه داخرين‏*‏
‏(‏ النمل‏:87).‏
وتصف سوره النمل مصائر كل من المحسنين والمسيئين فتقول‏:‏
من جاء بالحسنه فله خير منها وهم من فزع يومئذ امنون‏*‏ ومن جاء بالسيئه فكبت وجوههم في النار هل تجزون الا ما كنتم تعملون‏*.‏ ‏(‏ النمل‏:89‏ ‏90).‏
وتختتم السوره الكريمه بامر الهي الي الرسول الخاتم والنبي الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ليقول للناس كافه‏:‏
انما امرت ان اعبد رب هذه البلده الذي حرمها وله كل شئ وامرت ان اكون من المسلمين‏*‏ وان اتلو القران فمن اهتدي فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل انما انا من المنذرين‏*‏ وقل الحمد لله سيريكم اياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون‏* ‏‏(‏ النمل‏:91‏ ‏93)‏
والايات التي استشهدت بها سوره النمل علي صدق ما جاء بها من عقائد وتشريعات واحكام واخبار تشمل ما يلي‏:‏
‏(1)‏ الاشاره الي ان لكل من الطيور والحشرات ولغيرهما من الحيوانات بالقياس‏(‏ ولباقي الكائنات من الاحياء والجمادات‏)‏ قدرا من الادراك‏، ومنطقا يعين كلا منهم علي التعبير عن مشاعره وخواطره وايمانا فطريا تسخيريا للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وادراكا لجلال هذا الخالق العظيم‏، وهو باب في العلم لم يدرك الانسان طرفا منه الا في العقود المتاخره من القرن العشرين ولا يزال العلم اليوم علي عتبات ذلك الباب‏.‏
‏(2)‏ الاشاره الي سرعات فائقه تقترب من سرعه الضوء كالسرعه التي نقلت بها عرش بلقيس ملكه سبا من جنوب اليمن الي بيت المقدس في زمن لا يتعدي طرفه عين‏، ولم يكن احد علي وجه الارض حينذاك ولا في وقت تنزل القران الكريم يدرك شيئا من قبيل تلك السرعات الفائقه الا في المعجزات او الاساطير‏.‏
‏(3)‏ الاشاره الي تزجيج بلاط الارضيات‏....‏ انه صرح ممرد من قوارير‏....‏
‏(4)‏ خلق السماوات والارض بالحق‏.‏
‏(5)‏ انزال الماء من السماء وانبات النبات والشجر باذن الله‏.‏
‏(6)‏ جعل الارض قرارا وارساوها بالجبال‏، وشق الانهار من خلالها‏.‏
‏(7)‏ وجود حاجز فاصل بين كل بحرين متجاورين من بحار الارض‏.‏
‏(8)‏ خلق النجوم زينه للسماء الدنيا‏، ووسيله هدايه للناس في ظلمات البر والبحر‏.‏
‏(9)‏ ارسال الرياح بشرا بين يدي رحمه الله‏.‏
‏(10)‏ التاكيد علي ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يبدا الخلق ثم يعيده‏.‏
‏(11)‏ التاكيد علي ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ يرزق كل عباده من السماء والارض حسب مشيئته وتقديره‏.‏
‏(12)‏ التاكيد علي ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو وحده الذي يعلم غيب السماوات والارض‏، وعلي ان المخلوقين لا يعلمون ايان يبعثون‏.‏
‏(13)‏ تاكيد حقيقه ان الليل للسكن والراحه‏، وان النهار للنشاط والعمل‏.‏
‏(14)‏ الاشاره الي دوران الارض حول محورها بوصف الجبال انها تمر مر السحاب‏.‏
‏(15)‏ التاكيد علي ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ سيفتح ابواب معرفه الكون للناس في اخر الزمان فيرون اياته ويعرفونها‏.‏
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه خاصه‏، ولذلك فسوف اقصر حديثي هنا علي قوله‏(‏ تعالي‏):‏
‏...‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏...*(‏ النمل‏:61).‏
وقبل البدء في ذلك لابد من استعراض اقوال عدد من المفسرين السابقين لهذا النص القراني المعجز‏.‏

من اقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏ ‏...‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏..*‏
ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:...‏ اي جعل بين المياه العذبه والمالحه‏(‏ حاجزا‏)‏ اي مانعا يمنعها من الاختلاط‏.....‏
وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما نصه‏:...(‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏)‏ بين العذب والملح لا يختلط احدهما بالاخر‏....‏
وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمه واسعه‏)‏ ما نصه‏:‏ البحر الملح الاجاج‏، والنهر العذب الفرات‏...‏
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران‏(‏ رحم الله كاتبه برحمته الواسعه‏)‏ ما نصه‏:...‏ برزخا فاصلا من الارض بين العذب والملح‏، حتي لا يبغي احدهما علي الاخر‏.‏
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:...‏ وجعل بين الماء العذب والماء الملح فاصلا يمنع امتزاج احدهما بالاخر‏!!...‏
وجاء في صفوه التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبه خير الخبراء‏)‏ ما نصه‏:..‏ اي وجعل بين المياه العذبه والمالحه فاصلا ومانعا يمنعها من الاختلاط لئلا يفسد ماء البحار المياه العذبه‏....‏
وواضح من هذا الاستعراض اجماع المفسرين قدامي ومعاصرين علي ان المقصود بالبحرين هنا هما النهر العذب الفرات والبحر الملح الاجاج‏، ولكن في مقال سابق اوضحنا ان المقصود بالبحرين في قول الحق‏(‏تبارك وتعالي‏):‏ مرج البحرين يلتقيان‏*‏ بينهما برزخ لا يبغيان‏*‏ ‏(‏الرحمن‏:19‏ ‏20)‏
هما البحر الملح ونظيره الملح عندما يختلفان في صفاتهما الطبيعيه والكيميائيه‏، وهو نفس الاستنتاج هنا بالنسبه للبحرين المذكورين في الايه رقم‏(61)‏ من سوره النمل‏.‏
من مبررات تفسير لفظه‏(‏ البحرين‏)‏ المطلقه في القران الكريم بالبحرين الملحين‏(‏ المالحين‏)‏
في كل من الايه رقم‏(61)‏ من سوره النمل‏، والايتين رقم‏(19‏ ‏20)‏ من سوره الرحمن تفسر لفظه‏(‏ البحرين‏)‏ التي جاءت مطلقه في الحالتين بالبحرين الملحين وذلك للمبررات التاليه‏:‏
اولا‏:‏ ان لفظه‏(‏ البحر‏)‏ في اللغه العربيه تطلق علي كل من البحر الملح‏، والبحر العذب‏(‏ اي النهر‏)، ولكنها اذا اطلقت دون تقييد فانها تدل علي البحر الملح فقط‏، واذا قيدت فانها تدل علي ما قيدت به‏، وقد جاءت لفظه‏(‏ البحرين‏)‏ مطلقه في الحالتين المذكورتين‏.‏
ثانيا‏:‏ اورد القران الكريم لفظه‏(‏ البحر‏)‏ بالاطلاق في‏39‏ موضعا‏، منها‏33‏ بالافراد‏، وثلاث بالتثنيه‏، وثلاثه اخري بصيغه الجمع‏، ومن ذلك قوله تعالي‏:‏
‏(1)...‏ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بامره وسخر لكم الانهار‏*(‏ ابراهيم‏:32)‏
‏(2)..‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏...*‏ (‏ النمل‏:61)‏
‏(3)‏ مرج البحرين يلتقيان‏*‏ بينهما برزخ لا يبغيان‏* (‏ الرحمن‏:19‏ ‏20)‏
وفي المقابل نلاحظ ان القران الكريم اورد لفظه‏(‏ البحر‏)‏ بالتقييد المحدد مرتين فقط بصيغه التثنيه يقول فيهما ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(1)‏ وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا‏*(‏ الفرقان‏:53)‏
‏(2)‏ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج ومن كل تاكلون لحما طريا وتستخرجون حليه تلبسونها وتري الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون‏*(‏ فاطر‏:12).‏
ثالثا‏:‏ في وصف لفظه‏(‏ البحرين‏)‏ المطلقه جاء في سوره الرحمن قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ يخرج منهما اللولو والمرجان‏*(‏ الرحمن‏:22)‏
والمرجان حجر من الاحجار شبه الكريمه يوخذ من هياكل حيوان بحري لا يحيا الا في الماء الملح‏، اما اللولو فيستخرج من اصداف حيوانات تحيا في اي من الماء الملح او الماء العذب‏، ولكن جمعهما معا يوكد علي ان المقصود بالبحرين هنا هما البحر الملح والبحر الملح‏، وهو امر اكبر اعجازا من التقاء النهر العذب بالبحر المالح علي اهميه ذلك العظمي‏، وضرورته القصوي لاستقامه الحياه علي الارض‏، وعلي ما فيه من اعجاز في الخلق يعجز البيان عن تصويره ‏.‏
رابعا‏:‏ الاشاره القرانيه الكريمه الي تعظيم الفاصل بين البحرين العذب والملح بكل من البرزخ والحجر المحجور وذلك لوجود الدلتا ومقدماتها وما حولهما من حواجز ترسيبيه‏، بالاضافه الي الماء الوسطي بين العذب والملح‏(‏ الماء المويلح اي قليل الملوحه‏)‏ علي حواف الماء العذب عند التقاء الماءين‏، وفي المقابل الاشاره القرانيه الي الفاصل بين البحرين‏(‏ بغير تخصيص‏)‏ بتعبير البرزخ فقط او الحاجز فقط وهو الحاجز من الماء الوسطي بين ماءين مختلفين في صفاتهما الطبيعيه والكيميائيه كالبحرين الملحين المختلفين افقيا او راسيا‏;‏ وذلك لان مثل هذا الحاجز لا يمنع تحرك الكائنات البحريه من كتله مائيه الي كتله مائيه اخري مجاوره الا اذا تباينت الصفات بينهما تباينا صارخا فهو لا يحجر الكائنات البحريه حجرا كاملا‏، كما انه يصعب ادراكه علي غير المتخصصين حتي في زمن التقدم العلمي الذي نعيشه‏.‏
خامسا‏:‏ ثبت ان التنوع بين كتل الماء المتجاوره افقيا وراسيا بين البحار المتجاوره‏، وفي داخل البحر الواحد من البحار العميقه والمحيطات هو ضروره من ضرورات التنوع البيئي في البحار الذي لولاه لتقلصت الحياه البحريه تقلصا شديدا‏.‏
وتتجاور تلك الكتل المائيه وتختلط دون امتزاج كامل علي الرغم من محاوله التيارات والامواج البحريه خلط كل كتلتين مائيتين متجاورتين بانشطتها المختلفه‏، ولكن كل الذي يحققه ذلك هو تكوين حزام او جبهه او برزخ او حاجز من ماء وسطي في كل حاله يعمل هذا البرزخ علي ابقاء تلك الكتل المائيه المتجاوره مفصوله فصلا كاملا عن بعضها البعض‏، وكان كلا منها عباره عن بحر مستقل بذاته‏.‏

تباين الكتل المائيه المتجاوره في صفاتها بين البحار المتجاوره وفي البحر الواحد
علي الرغم من وجود كتل مائيه متجانسه في صفاتها الطبيعيه والكيميائيه تغطي مساحات كبيره من محيطات الارض وبحارها الكبيره‏، فان قياس عدد من الصفات الطبيعيه والكيميائيه من مثل كل من درجات الحراره ونسبه الملوحه والكثافه ونسبه الاوكسجين المذاب في الماء قد اثبتت وجود تباين ملحوظ في تلك الصفات من كتله الي اخري اي من بحر الي اخر‏، وحتي في البحر الواحد‏، ومع تباين تلك الصفات تتباين التجمعات الحياتيه في كل منها‏.‏ كما تتباين انواع الرسوبيات التي تترسب منها‏;‏ وهذه الحقيقه لم تدرك الا في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي اثناء رحله باخره الابحاث البحريه البريطانيه المسماه باسم رحله التحدي‏ The Challenger Expedition‏ والتي تمت في الفتره من‏1872‏ م الي‏1876‏ م‏.‏ واثبتت ابحاثها ان الماء في بحار ومحيطات الارض ينقسم الي عدد من الكتل المتجاوره افقيا وراسيا‏، ولما كانت التغيرات الراسيه في صفات ماء البحار والمحيطات اسرع من التغيرات الافقيه‏، فان التمايز الراسي في صفات ماء البحار والمحيطات كان دائما اوضح من تمايزه الافقي‏، وعلي سبيل المثال فان درجه حراره الماء عند خط الاستواء تنخفض من‏25‏ درجه مئويه عند مستوي سطح البحر او المحيط الي‏5‏ درجات مئويه علي عمق كيلو متر واحد‏، بينما لا تنخفض افقيا الي نفس الدرجه الا علي بعد حوالي‏5000‏ كيلو متر شمالا او جنوبا من خط الاستواء‏.‏
وعلي الرغم من ذلك فان التغيرات الافقيه في الصفات الطبيعيه والكيميائيه قائمه بالفعل‏، وباضافتها الي التغيرات الراسيه نلاحظ ان الكتل المائيه في البحار والمحيطات تتغير صفاتها في الابعاد المكانيه الثلاثه‏، كما تتغير مع الفصول المناخيه ومع كل من الليل والنهار‏(‏ اي مع الزمن‏).‏

طبيعه الحاجز بين البحرين
مع التغير في الصفات الطبيعيه والكيميائيه لكتل الماء فانها تتحرك في الاتجاهات الراسيه والافقيه‏، وتختلط‏، وتتداخل احيانا‏، وتتبادل درجات الحراره والملوحه الا انها تظل دائما مفصوله عن بعضها البعض بحواجز غير مرئيه بطريقه مباشره علي هيئه حدود من الماء ذي الطبيعه الوسطيه‏.‏
وعلي الرغم من ذلك فان الماء في البحار والمحيطات يبدو متجانسا لخفاء تلك الحواجز الفاصله من الكتل المائيه‏، ويعين علي ذلك ان‏75%‏ من مجموع ماء البحار والمحيطات في درجه حراره تتراوح بين الصفر‏، و‏6‏ درجات مئويه‏، ودرجه ملوحه تتراوح بين‏3،4%، و‏3،5%;‏ و‏50%‏ من مجموع ماء تلك البحار والمحيطات في درجه حراره تتراوح بين‏3،8،1،3‏ درجه مئويه‏، ودرجه ملوحه تتراوح بين‏3،46%،3،48%;‏ وان متوسط درجه حراره الماء في محيطات الارض هو‏3،5‏ درجه مئويه‏، ومتوسط درجه الملوحه هو‏3،47%، وان كانت هذه المعطيات تتغير كثيرا في كل من البحار المغلقه وشبه المغلقه‏.‏

توزيع الكتل المائيه بين البحار والمحيطات
تمتد الكتل المائيه في المحيطات والبحار المفتوحه لمسافات طويله بمحاذاه خطوط العرض‏(‏ اي في الاتجاه من الشرق الي الغرب‏)‏ ولكنها تتغير افقيا بسرعه في الاتجاه المتعامد‏(‏ اي من خط الاستواء شمالا وجنوبا‏)‏ ولذلك تتمايز الي الكتل الاستوائيه‏، والكتل المداريه والكتل شبه المداريه والتي تجمع احيانا تحت مسمي الكتل المائيه في خطوط العرض الدينا في مقابله الكتل المائيه في خطوط العرض العليا والتي تمتد شمالا وجنوبا حتي القطبين‏.‏
وتتباين الصفات الطبيعيه والكيميائيه للكتل المائيه بتباين اوضاعها علي سطح الكره الارضيه‏، وبتباين مناسيبها من سطح البحر‏، وبتباين هذه الصفات تنقسم الكتل المائيه بصفه عامه الي ما يلي‏:‏
‏*‏ اولا‏:‏ الكتل المائيه السطحيه‏:‏ وتمتد من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات الي اعماق تتراوح بين‏400‏ متر عند خط الاستواء و‏900‏ متر عند خط عرض‏30‏ شمالا وجنوبا‏، عندما يبدا الانخفاض الفجائي في المنحني الحراري اي‏:‏ في درجات الحراره‏، وان كان الحد الاسفل للنشاط السطحي للماء في البحار والمحيطات يوضع عاده بين‏200‏ ‏300‏ متر تحت مستوي سطح البحر‏، حيث يظهر تغير ملحوظ في كثافه الماء او ما يعرف باسم منحني الكثافه‏، وينقسم الماء السطحي في البحار والمحيطات الي عدد من الكتل الكبري التي منها‏:‏
‏(1)‏ الكتله المتوسطه‏:‏ وتمتد بين خطي العرض‏35،30‏ شمالا وجنوبا‏، وتتراوح درجه حراره الماء في هذه الكتله من‏6‏ الي‏19‏ درجه مئويه‏، وتتراوح نسبه ملوحتها بين‏3،4%،3،65%، وتنقسم هذه الكتله المائيه الكبيره الي عدد من الكتل الاصغر التي لها نفس الكثافه تقريبا‏;‏ ولكنها تختلف في بقيه صفاتها الطبيعيه‏، وذلك باختلاف مواقعها الجغرافيه‏.‏

‏(2)‏ كتل الماء السطحي في خطوط العرض العليا‏:‏ وتمتد في المناطق المناخيه المعتدله شمالا وجنوبا‏، وتتميز بدرجات حراره ونسبه ملوحه منخفضه عن الماء في الكتله المتوسطه وذلك لوجودها في مناطق بارده وغزيره الامطار‏.‏
‏(3)‏ كتل الماء السطحي في المناطق القطبيه وحول القطبيه‏:‏ وتشمل المحيطين القطبيين الشمالي والجنوبي والمناطق المحيطه بهما‏، واضخمها المنطقه حول القطب الجنوبي‏، ويمتد الماء السطحي فيها الي اعماق تصل الي‏3500‏ متر تحت مستوي سطح البحر‏، في درجات حراره تتراوح بين الصفر المئوي والدرجتين‏، ونسبه ملوحه تتراوح بين‏3،46%، و‏3،47%.‏
‏*‏ ثانيا‏:‏ كتل الماء متوسط العمق‏:‏ وتمتد الي عمق يصل الي‏1500‏ متر تحت مستوي سطح البحر‏، في تباين واضح لدرجات الحراره ونسب الملوحه‏، وذلك نظرا لتحرك هذا الماء من مصادر سطحيه مختلفه‏.‏ وعلي ذلك يقسم هذا الماء الي العديد من الكتل علي اساس من صفاته الطبيعيه والمصادر التي جاء منها‏.‏
وتوجد هذه الكتل المائيه متوسطه العمق في كل احواض المحيطات تقريبا‏، خاصه في المنطقه حول القطب الجنوبي‏، ويتدفق منها الماء البارد‏، في اتجاه الشمال حتي يصل الي خط عرض‏20‏ درجه شمالا في المحيط الاطلسي‏، وحتي خط عرض‏10‏ درجات جنوب خط الاستواء في كل من المحيطين الهندي والهادي‏، ويمتد هذا الماء البارد من القطب الشمالي الي شمال كل من المحيط الاطلسي والهادي متمركزا في اجزائهما الغربيه‏، وتزداد ملوحته نسبيا بسبب تجمد الماء وتحرك الركازه الملحيه الي تلك المناطق‏.‏
‏*‏ ثالثا‏:‏ كتل الماء العميق‏:‏ واوضح نموذج لها يوجد في الجزء الشمالي الغربي من المحيط الاطلسي‏;‏ حيث يتكون هذا الماء من اختلاط ماء شديد الملوحه مندفع بواسطه تيار خليج فلوريدا والماء القادم من المنطقه شبه المتجمده الشماليه وهو ماء شديد البروده خاصه في فصل الشتاء‏، وتسمي هذه الكتله المائيه باسم كتله ماء المحيط الاطلسي العميقه‏، وهي تملا قاع هذا المحيط الي خط عرض‏30‏ درجه شمالا‏، ولكنها كلما اتجهت جنوبا تتطابق بين كتلتي الماء متوسط العمق وشديد العمق لطفوها فوق ماء القطب الجنوبي البارد العالي الكثافه والملوحه‏، وتبقي كل كتلتين من تلك الكتل المائيه المتجاوره راسيا وافقيا محتفظه بصفاتها الطبيعيه والكيميائيه وسط اطر من الماء المتوسط الصفات بينهما‏، وينتج هذا الماء الوسطي عن الاختلاط الجزئي بينهما وذلك بفعل التيارات والامواج البحريه التي تعمل علي خلطهما خلطا جزئيا‏.‏
وتبلغ درجه حراره كتل هذا الماء العميق في قاع المحيط الاطلسي حوالي ثلاث درجات مئويه‏;‏ ولا توجد كتل عميقه من الماء في كل من المحيطين الهندي والهادي‏، باستثناء بعض الجيوب الصغيره في كل منهما‏.‏
‏*‏ رابعا‏:‏ كتل الماء شديده العمق‏:‏ وتنتشر اساسا فوق قاع المحيط القطبي الجنوبي‏، ويعتبر ماوها اعلي ماء الارض كثافه ويتركز حول القاره القطبيه الجنوبيه‏، ويتحرك هذا الماء الشديد البروده والملوحه والكثافه من هناك شمالا الي قيعان المحيطات الرئيسيه الثلاثه‏(‏ الهادي‏، والهندي‏، والاطلسي‏)‏ حتي يصل الي خط العرض‏30‏ درجه شمالا‏.‏
وهذه الكتل من ماء قاع القطب الجنوبي تتكون اساسا من تجمد الماء بكميات كبيره فوق الرصيف القاري تاركا وراءه كميات مهوله من الركازات الملحيه التي تندفع عبر منحدرات الجرف القاري لتختلط مع اقدار مساويه تقريبا من كتل الماء السطحي حول القطب الجنوبي‏، فينشا هذا الماء الذي يتميز ببروده شديده‏، وكثافه مائيه عاليه‏، ونسبه ملوحه عاليه نسبيا‏(‏ في حدود‏3،47%).‏
من ذلك الاستعراض يتضح ان الماء في جميع البحار المفتوحه والمحيطات يترتب افقيا وراسيا في كتل متمايزه مفصوله بماء وسطي يفصل كل كتلتين عن بعضهما البعض كان كل واحد منهما بحر مستقل بذاته‏، وذلك علي الرغم من نشاط كل من الامواج والتيارات البحريه‏.‏ وتبدا هذه الكتل المائيه عند مستوي سطح البحر في المناطق ذات خطوط العرض العليا‏، وتمتد الي الاعماق بالتدريج حتي تصل الي قاع المحيط في المناطق الاستوائيه‏، ويبقي الترتيب الافقي لتلك الكتل المائيه حسب مناطقها المناخيه يعكس الترتيب الراسي في المنطقه الواحده حسب العمق بصفه عامه‏.‏
والماء يتحرك افقيا في البحار والمحيطات بفعل الرياح والتيارات البحريه وبكل من الامواج السطحيه والداخليه‏، ويتحرك راسيا بازدياد الكثافه او نقصها الناتج عن الاختلاف في اي من درجات الحراره او نسبه الاملاح المذابه او فيهما معا نتيجه لتعرض الماء السطحي للبخر او للامطار‏، او تعرض الماء العميق للانشطه البركانيه فوق قيعان البحار والمحيطات‏، او لشيء من الاختلاف في نسبه الاملاح المذابه بالاختلاط مع غيره من كتل الماء‏، واذا زادت كثافه الماء فانه يتحرك من اعلي الي اسفل‏، واذا قلت فانه يتحرك بالعكس من اسفل الي اعلي‏.‏
وقد ثبت بدراسه النظائر المشعه ان اختلاط كتلتين من الماء فوق قاع المحيط الهادي يحتاج في المتوسط الي فتره زمنيه بين الالف والالف وستمائه سنه‏، والي نصف هذه المده تقريبا في كل من المحيطين الهندي والاطلسي‏، ولذلك فان ماء المحيط الهادي يمثل اقدم ماء المحيطات علي الاطلاق‏.‏ وعلي العكس من ذلك فان الماء السطحي لا يكاد يبقي في مكانه لاكثر من‏10‏ الي‏20‏ سنه ولذلك يمثل احدث ماء المحيطات عمرا‏.‏

التمايز بين ماء البحار شبه المغلقه والمفتوحه
ويظهر التمايز بين كتل الماء المتجاوره اكثر ما يظهر بين البحار شبه المغلقه والمحيطات وذلك من مثل البحر الابيض المتوسط عند اتصاله بالمحيط الاطلسي عبر مضيق جبل طارق‏، والبحر الاحمر عند اتصاله مع خليج عدن عبر باب المندب‏، والخليج العربي عند اتصاله مع خليج عمان عبر مضيق هرمز‏، والبحر الاسود عند اتصاله ببحر ايجه عبر مضيق البوسفور‏(‏ الدردنيل‏).‏
فالماء في البحر الابيض المتوسط تزداد ملوحته بالتدريج لان مجموع مايتبخر منه سنويا يبلغ ثلاثه اضعاف ما يسقط عليه من مطر‏، وما يفيض اليه من ماء الانهار خاصه بعد اتمام مشروع السد العالي في سنه‏1970‏ م‏، ويعوض ذلك بتيار ماء سطحي من المحيط الاطلسي يدخل عبر مضيق جبل طارق بمحاذاه السواحل الشماليه للقاره الافريقيه ثم يتحرك شرقا في عكس اتجاه عقارب الساعه مكونا الثمانين مترا العليا من الماء في البحر الابيض المتوسط ليجدد ماءه باستمرار‏، وكذلك يتلقي البحر الابيض المتوسط تيارا سطحيا متواضعا من البحر الاسود عبر مضيق الدردنيل‏.‏
ومع ازدياد البخر في الصيف تزداد نسبه الاملاح في الماء السطحي للبحر الابيض المتوسط فتزداد كثافته ويهبط الي القاع‏، ومع الرياح البارده التي تهب عليه في الشتاء يبرد الماء السطحي في هذا البحر فتزداد كثافته ايضا ويهبط الي القاع‏، ويفيض هذا الماء العميق‏، البارد‏، ذو الملوحه النسبيه والكثافه العاليتين عبر مضيق جبل طارق ليفيض من فوق كتله الصخر المكونه للمضيق منحدرا بشده الي اعماق الجزء الشرقي من المحيط الاطلسي علي هيئه لسان من الماء عالي الكثافه والملوحه يمكن ادراكه علي عمق الف متر تقريبا ممتدا لالاف الكيلو مترات غربا‏.‏
وكل كتله من هذه الكتل المائيه الداخله من المحيط الاطلسي الي البحر الابيض المتوسط‏، والخارجه من ذلك البحر الي المحيط والكائنه في الاجزاء المختلفه من كل منهما تختلط بالكتل الاخري ولا تمتزج بها امتزاجا كاملا‏، وذلك بتكون نطق من ماء ذي طبيعه وسطيه بين كل كتلتين متجاورتين‏.‏
وكذلك الحال بالنسبه للبحر الاحمر‏، وهو بحر طولي عميق‏، يبلغ طوله حوالي الالفي كيلو متر‏، ويتراوح عرضه بين‏145‏ كم‏،306‏ كم‏، وتقدر مساحته بحوالي‏438،000‏ كيلو متر مربع‏، ويصل عمقه الي‏2920‏ مترا‏، وماوه دافيء‏، عالي الملوحه لان متوسط البخر من هذا البحر يقدر بحوالي‏200‏ سنتيمتر في السنه تقريبا‏.‏
وينقسم هذا البحر الطولي الي غور خسيف شديد العمق في وسط حوض محوري عميق يحيط به رصيف قاري ضحل نسبيا يتدرج في العمق باتجاه المحور المركزي بواسطه سلسله من الصدوع السلميه‏.‏
والماء في عمق هذا البحر‏(‏ في الخمسين مترا السفلي منه‏)‏ تتراوح درجه حرارته بين الخمسين والمائه درجه مئويه‏، وتبلغ ملوحته ثمانيه اضعاف متوسط ملوحه البحار والمحيطات‏(‏ اي حوالي‏27،2%).‏
ويندفع الماء الدافيء المالح الكثيف نسبيا من البحر الاحمر الي خليج عدن عبر باب المندب فينساب تحت ماء المحيط الهندي علي عمق ثمانمائه متر تقريبا تحت مستوي سطح البحر‏، ويندفع تيار مائي معاكس من خليج عدن الي داخل البحر الاحمر يحمل اليه ماء اقل كثافه‏، وحراره وملوحه واعلي في الاوكسجين المذاب وبالنسبه للخليج العربي يندفع ماوه الدافيء المالح كذلك الي خليج عمان عبر مضيق هرمز ويتم ادراكه علي عمق ثلاثمائه متر تقريبا تحت سطح الماء في الجزء الشمالي من المحيط الهندي‏، ويندفع تيار معاكس من خليج عمان الي الخليج العربي‏.‏
وفي هذه الحالات الثلاث وامثالها يتكون بين كل كتلتين مائيتين متجاورتين حزام من ماء ذي طبيعه وسطيه يعرف باسم الماء المختلط او الجبهه المائيه الفاصله بين كتلتين متجاورتين‏، ويتحرك هذا الحزام بهيئه راسيه اولا ليفصل بين الكتلتين المائيتين المتجاورتين افقيا‏، ثم ينحني بالتدريج حتي يصير في وضع مائل ثم افقي ليفصل بين كتلتين مائيتين تعلو احداهما الاخري‏.‏
وهذه الجبهه عبر عنها القران الكريم بتعبير البرزخ مره‏، وبتعبير الحاجز في الايه الكريمه التي نحن بصددها‏، وهو حاجز حقيقي وان كان لا يري بطريقه مباشره‏، لانه يفصل بين الكتلتين المائيتين المتجاورتين فصلا كاملا علي الرغم من نشاط التيارات والامواج البحريه التي تعمل علي خلط انواع الماء المتباينه في صفاتها مع بعضها البعض‏، وذلك يتكون هذا الحاجز الذي يزداد سعه او ينقص حتي يتلاشي ليتكون من جديد بين كتلتين مائيتين اخريين‏.‏
وتبدو كتل الماء المتجاوره في البحر الواحد متجانسه‏، ولكن بالتحليل الكيميائي الدقيق وبالتصوير من الفضاء بواسطه الاشعه تحت الحمراء يتضح تمايزها الي كتل متجاوره مفصوله فصلا كاملا بحواجز غير مرئيه تحول دون امتزاج كامل لتلك الكتل المتجاوره من الماء افقيا او راسيا‏.‏
فسبحان الذي انزل من قبل الف واربعمائه سنه قوله الحق‏:‏
‏...‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏...(‏ النمل‏:61)‏
وهي حقيقه لم يدركها العلم المكتسب الا في صوره بدائيه جدا وذلك في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏(1872‏ ‏1876‏ م‏)، ولم تتم بلورتها‏، وقبولها من العلماء المتخصصين الا في منتصف الاربعينيات من القرن العشرين‏.‏
فسبحان الذي انزل القران الكريم‏..(‏ انزله بعلمه‏)..‏ وحفظه بلغه وحيه‏، وبصفائه الرباني وقدسيته‏، واشراقاته النورانيه وصدقه‏، وباعجازه المبهر والمتجدد باستمرار‏، حتي يبقي حجه علي الخلق اجمعين منذ اللحظه الاولي للوحي به‏، والي قيام الساعه ان شاء الله رب العالمين‏، وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم الذي تلقي القران من لدن حكيم عليم‏، وعلي اله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين‏.‏

إرسال تعليق