اخر الاخبار

breaking/مقالات الدكتور/9
مقالات الدكتور

8:44 ص

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 24 يونيو 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم" 

أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

هذه الايه القرانيه الكريمه جاءت في اواخر الثلث الثاني من سوره النور‏، وهي سوره مدنيه‏، واياتها اربع وستون‏، وقد سميت بهذا الاسم لورود الاشاره فيها الي ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو نور السموات والارض‏.‏ وانه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يهدي لنوره من يشاء‏، وان‏...‏ من لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسوره حول عدد من التشريعات الالهيه الضابطه لسلوك المسلم في كل من حياته الخاصه والعامه‏;‏ والحاكمه للعلاقات في داخل الاسره المسلمه صونا لحرماتها‏.‏
وتبدا سوره النور بتاكيد انها من جوامع سور القران الكريم لان الله‏(‏ تعالي‏)‏ فرض فيها علي عباده فرائض الزمهم بها‏، وفي مقدمتها تحريم الزنا‏، وتشريع الحدود الرادعه للواقعين في هذه الجريمه النكراء‏..‏ وتبشيعها الي الناس كافه بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ الزاني لا ينكح الا زانيه او مشركه‏، والزانيه لا ينكحها الا زان او مشرك‏، وحرم ذلك علي المومنين‏(‏ النور‏:3).‏
وتنهي السوره الكريمه عن الخوض في اعراض الناس‏، وتوكد ان الخائضين في هذا الامر بغير دليل هم من الفاسقين الذين تجدر بهم العقوبات الرادعه‏، وتحدد العقوبه المناسبه لهم‏، وتعتبرهم من الخارجين علي دين الله الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم‏(‏ النور‏:5).‏
وتشرع سوره النور للملاعنه كوسيله من وسائل درء الشبهات بين الازواج‏;‏ وتشير الي فريه الافك‏، وتبريء المظلومين من دنسها‏، وتغلظ العقوبه للذين افتروها‏.‏ وتصفه بانه بهتان عظيم‏، وتحذر من العوده الي افتراء مثله ابدا وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏:‏ يعظكم الله ان تعودوا لمثله ابدا ان كنتم مومنين‏، ويبين الله لكم الايات والله عليم حكيم‏، ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشه في الذين امنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والاخره والله يعلم وانتم لا تعلمون‏، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رووف رحيم ‏(‏النور‏:17‏ ‏20).‏
وتحذر سوره النور من اتباع خطوات الشيطان لانه يامر بالفحشاء والمنكر‏;‏ وتحض السوره الكريمه علي الانفاق لذي القربي والمساكين والمهاجرين في سبيل الله‏;‏ وتنهي عن رمي المحصنات الغافلات المومنات‏، وتغلظ العقوبه علي الوقوع في هذا الجرم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المومنات لعنوا في الدنيا والاخره ولهم عذاب عظيم‏، يوم تشهد عليهم السنتهم وايديهم وارجلهم بما كانوا يعملون‏، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون ان الله هو الحق المبين‏.(‏ النور‏:23‏ ‏25)، وتضيف السوره الكريمه الدعوه الي طهاره المجتمعات الانسانيه موكده حكم الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات‏، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات‏، اولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفره ورزق كريم‏.‏ ‏(‏النور‏:26).‏
وتنهي سوره النور عن دخول البيوت دون استئذان وسلام علي اهلها‏، وتضع الضوابط الشرعيه لدخول البيوت بصفه عامه‏، وتامر بغض البصر‏، وحفظ الفرج‏، وستر العورات‏، وبالاحتشام في الملبس والمظهر‏، وتنهي عن التبرج بزينه‏، وتضع الضوابط الصحيحه لحجاب المراه المسلمه‏، وللزواج‏، كما تحرم البغاء‏، واستغلال الجواري للكسب المادي الرخيص من وراء هذه الجريمه المهدره لكرامه الانسان وذلك بقسرهن عليها‏، واكراههن علي ممارستها‏.‏
وتوكد السوره الكريمه ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد انزل الي الناس ايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلهم وموعظه للمتقين‏، وتوكد ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو نور السموات والارض‏، وانه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يهدي لنوره من يشاء‏:‏ وتضرب مثلا لذلك‏، ولله المثل الاعلي‏.‏ وتدعو سوره النور الي عتق رقاب الارقاء‏;‏ والي بناء المساجد‏، والي القيام علي عمارتها وتطهيرها‏..‏ بيوتا لله في الارض‏، ومنارات للدعوه الي دين الله الخاتم‏، يعبد فيها الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏(‏ بغير شريك‏، ولا شبيه‏، ولا منازع‏);‏ ويسبح المومنون فيها بحمده صباح مساء‏، لا يشغلهم عن ذلك شيء من ملهيات الدنيا‏، ومتعتها‏، وزخارفها‏..‏ وذلك طمعا في مرضاه الله‏، وتجنبا لسخطه‏، وتحسبا لاهوال يوم القيامه الذي تتقلب فيه القلوب والابصار‏...!!‏ وتبشر السوره الكريمه اهل المساجد بان الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يجزيهم‏..‏ احسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب‏.(‏ النور‏:38).‏
وفي المقابل توكد سوره النور ان الكفار في الاخره سوف يجدون اعمالهم التي اقترفوها في الدنيا‏(‏ وهم متصورون انها اعمال نافعه‏)‏ وكانها سراب خادع لا قيمه له‏، ولا نفع منه‏;‏ وسوف يجدون الله‏(‏ تعالي‏)‏ حاضرا يوفيهم حسابهم وهو‏(‏ تعالي‏)‏ سريع الحساب‏، واما اعمالهم السيئه فسوف يجدونها كظلمات متكاثفه يشبهها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالظلمات المتراكبه فوق قيعان البحار العميقه‏، والتي يشارك في احداثها كل من السحاب‏، والامواج السطحيه‏، والامواج الداخليه والتي لم تكتشف الا في مطلع القرن العشرين‏، وتعتبر الاشاره اليها في سوره النور سبقا علميا للقران الكريم في زمن لم يكن لاحد من البشر ادراك لوجودها‏، بل ظلت خافيه علي علم الانسان لمدي ثلاثه عشر قرنا بعد تنزل الوحي بها‏، والواقف في مثل هذه الظلمات المتكاتفه لا يكاد يري شيئا من حوله ولذلك تقرر الايات حقيقه كونيه واقعه تصفها بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏...‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وتاتي الكشوف العلميه في السنوات القليله الماضيه موكده ان كل صور الحياه فوق قيعان البحار العميقه‏، وكذلك بعض الكائنات الليليه علي سطح الارض قد زودها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بوسائل اضاءه ذاتيه‏، حتي ينطبق النص القراني في اخر هذه الايه الكونيه علي الواقع المادي المحسوس‏، كما ينطبق علي المعني الضمني المقصود‏..!!.‏
وتوكد سوره النور ان جميع من في السموات والارض يسبح لله الذي له ملك كل شئ‏، واليه المصير‏;‏ وتستشهد علي طلاقه القدره الالهيه المبدعه بتكوين السحاب الركامي علي هيئه الجبال‏(‏ وبانزال كل من المطر والبرد منه‏، وبنسبه تكون ظاهره البرق الي البرد‏)‏ لان في الاشاره الي هذه الحقائق التي لم يصل اليها علم الانسان الا في العقود المتاخره من القرن العشرين‏;‏ تاكيد علي ان القران كلام الله الخالق‏، وعلي نبوه الرسول الخاتم الذي تلقاه‏، وتستشهد الايات علي ذلك ايضا بتقليب الليل والنهار‏، وبخلق كل دابه من ماء‏، وبتصنيف تلك الدواب علي اساس من طرائق مشيها‏، وتوكد ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي كل شئ قدير‏;‏ وانه قد انزل ايات مبينات‏، وانه‏(‏ تعالي‏)‏ يهدي من يشاء الي صراط مستقيم
وتحذر السوره الكريمه من النفاق والمنافقين‏، وتفصح عن شيء من دخائل نفوسهم‏، وما جبلوا عليه من الكذب‏، والمكر‏، والخداع‏، والاحتيال‏، والحنث في الايمان‏، ونقض العهود والمواثيق‏(‏ تماما كما يفعل الصهاينه المجرمون اليوم‏).‏ وتقارن بين المواقف الكفريه الكاذبه الخائنه المشينه لهولاء المنافقين‏، والمواقف الايمانيه الصادقه الامينه الكريمه للمومنين‏، وتامر بطاعه الله ورسوله‏، فان اعرض المنافقون فما علي الرسول الا البلاغ المبين‏.‏ 
وتوكد سوره النور ان وعد الله قائم للذين امنوا وعملوا الصالحات بقوله‏:(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون‏(‏ النور‏:55).‏
وتعاود الايات الكريمه الامر باقام الصلاه‏، وايتاء الزكاه‏، وطاعه الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ خاصه في الامر بالجهاد في سبيل الله‏، موكده ان الذين كفروا‏(‏ من امثال الاسرائيليين المجرمين والامريكان المتجبرين المعتدين‏)‏ ليسوا بمعجزين في الارض‏، وان ماواهم جميعا النار وبئس المصير‏، كما تعاود الامر بالمزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم‏، وفي حضره رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ خاصه‏(‏ كنموذج للتعامل مع القياده الاسلاميه في كل زمان ومكان‏)‏ وتجعل هذا الادب في التعامل من صفات المومنين‏، وتحذر من مخالفه تلك الاوامر درءا لفتن الدنيا وعذاب الاخره‏.‏
وتختتم سوره النور بالتاكيد مره اخري ان لله ما في السماوات والارض‏، وانه‏(‏ تعالي‏)‏ عليم بخلقه‏، وانهم جميعا سوف يرجعون اليه فينبئهم بما فعلوا في الحياه الدنيا‏، ويجازيهم باعمالهم فيها ان خيرا فخير وان شرا فشر‏..‏
ومن الايات الكونيه التي استشهدت بها سوره النور علي صدق ما جاء بها من احكام وتشريعات ما يلي‏:‏
‏(1)‏ ان الله تعالي هو نور السماوات والارض‏، وانه تعالي هو الذي يهدي لنوره من يشاء‏، وان من لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏.‏ وضربت الايات مثلا للنور الالهي‏(‏ ولله المثل الاعلي‏).‏
‏(2)‏ تشبيه اعمال الكافرين التي اقترفوها في الدنيا‏(‏ وهم واهمون انها اعمال نافعه‏)‏ بالسراب الخادع‏.‏
‏(3)‏ تشبيه اعمال الكافرين السيئه في الحياه الدنيا بالظلمات المتراكبه فوق قيعان المحيطات والبحار العميقه‏، والتي يشارك في احداثها كل من السحاب‏، والامواج السطحيه‏، والامواج الداخليه التي لم تكتشف الا في مطلع القرن العشرين‏.‏
‏(4)‏ التاكيد علي ان من لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏، وذلك علي مستوي كل من الحقيقه الواقعه المحسوسه‏، والمعني الضمني المقصود‏.‏
‏(5)‏ التاكيد علي ان كل ما في السموات والارض يسبح بحمد الله‏(‏ تعالي‏)، ويقدسه‏، ويمجده في عباده اراديه او عباده تسخيريه لا يدركها كثير من الخلق الغافلين‏.‏
‏(6)‏ الاشاره الي تكون السحب الركاميه علي هيئه السلاسل الجبليه وذلك بازجاء السحاب‏، ثم التاليف بينه‏، ثم ركمه‏، وانزال كل من المطر والبرد منه‏، وتكون ظاهرتي البرق والرعد فيه‏.‏
‏(7)‏ التاكيد علي قدره الله البالغه في تقليب الليل والنهار‏.‏
‏(8)‏ خلق كل دابه من ماء‏.‏
‏(9)‏ الاشاره الضمنيه الرقيقه الي امكانيه تصنيف الدواب علي اساس من طريقه مشيتها‏.‏
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه مستقله‏، قد لا يتسع المجال لها ولذلك فانني سوف اقصر حديثي هنا علي الايه الاربعين من سوره النور والتي تتحدث عن الظلمات المتراكبه فوق قيعان البحار العميقه‏، واسباب تكونها‏، وقبل الخوض في ذلك لابد من استعراض سريع لاقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الايه الكريمه‏.‏

من اقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏ والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعه يحسبه الظمان ماء حتي اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب‏*‏ او كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏(‏النور‏:40،39).‏
ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ هذان مثلان ضربهما الله تعالي لنوعي الكفار‏، فاما الاول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاه الي كفرهم الذين يحسبون انهم علي شئ من الاعمال والاعتقادات‏، وليسوا في نفس الامر علي شئ فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يري في القيعان من الارض من بعد كانه بحر طام‏;‏ والقيعه جمع قاع كجار وجيره‏، وهي الارض المستويه المتسعه المنبسطه وفيه يكون السراب‏، يري كانه ماء بين السماء والارض‏، فاذا راي السراب من هو محتاج الي الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه‏، فلما انتهي اليه‏(‏ لم يجده شيئا‏)، فكذلك الكافر‏، يحسب انه قد عمل عملا وانه قد حصل شيئا‏، فاذا وافي الله يوم القيامه وحاسبه عليها ونوقش علي افعاله لم يجد له شيئا بالكليه‏، كما قال‏:(‏ وقدمنا الي ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا‏)، وقال ههنا‏:(‏ ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب‏)، وفي الصحيحين‏:‏ انه يقال يوم القيامه لليهود ما كنتم تعبدون؟ فيقولون‏:‏ كنا نعبد عزير ابن الله‏، فيقال‏:‏ كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون‏:‏ يارب عطشنا فاسقنا‏، فيقال‏:‏ الا ترون؟ فتمثل لهم النار كانها سراب يحطم بعضه بعضا فينطلقون فيتهافتون فيها‏.‏ وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب‏.‏ فاما اصحاب الجهل البسيط‏، وهم الاغشام المقلدون لائمه الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالي‏:(‏ او كظلمات في بحر لجي‏)‏ قال قتاده‏:(‏ اللجي‏)‏ هو العميق‏،(‏ يغشاه موج من فوقه موج‏، من فوقه سحاب‏، ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها‏)‏ اي لم يقارب رويتها من شده الظلام‏، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده‏، ولا يدري اين يذهب‏، بل كما يقال في المثل للجاهل‏:‏ اين تذهب؟ قال‏:‏ معهم‏، قيل فالي اين يذهبون؟ قال‏:‏ لا ادري‏، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏(‏ يغشاه موج‏)‏ يعني بذلك الغشاوه التي علي القلب والسمع والبصر‏، وهي كقوله‏:(‏ ختم الله علي قلوبهم وعلي سمعهم‏، وعلي ابصارهم غشاوه‏)‏ الايه وكقوله‏(‏ وختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوه‏).‏ فالكافر يتقلب في خمس من الظلم‏:‏ فكلامه ظلمه‏، وعمله ظلمه‏، ومدخله ظلمه‏، ومخرجه ظلمه‏، ومصيره يوم القيامه الي الظلمات الي النار‏، وقوله تعالي‏:(‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏)‏ اي من لم يهده الله فهو هالك جاهل بائر كافر‏، كقوله‏:(‏ ومن يضلل الله فلا هادي له‏)‏ وهذا في مقابله ما قال في مثل المومنين‏(‏ يهدي الله لنوره من يشاء‏)‏ فنسال الله العظيم ان يجعل في قلوبنا نورا‏، وعن ايماننا نورا‏، وعن شمائلنا نورا‏، وان يعظم لنا نورا‏.‏
وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله‏)‏ ما نصه‏:...(‏ والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعه‏)‏ جمع‏(‏ قاع‏)‏ اي فلاه‏، قاله الهروي‏، والصحيح ان‏(‏ القيعه‏)‏ مفرد مثل‏(‏ القاع‏)‏ وجمعهما‏(‏ قيعان‏)‏ وهو‏(‏ اي‏:‏ السراب‏)‏ شعاع يري فيها نصف النهار في شده الحر يشبه الماء الجاري‏(‏ يحسبه‏)‏ يظنه‏(‏ الظمان‏)‏ اي‏:‏ العطشان‏(‏ ماء حتي اذا جاءه لم يجده شيئا‏)‏ مما حسبه‏، كذلك الكافر يحسب ان عمله كصدقه ينفعه حتي اذا مات وقدم علي ربه لم يجد عمله‏، اي‏:‏ لم ينفعه‏(‏ ووجد الله عنده‏)‏ اي‏:‏ عند عمله‏(‏ اي‏:‏ لم يجد ما توقعه وما كان يعبده من دون الله في الدنيا بل وجد ان الله وحده هو الحق‏، ولم يجد محاسبا له علي عمله غيره فحاسبه‏)(‏ فوفاه حسابه‏)‏ اي‏:‏ جازاه عليه في الدنيا‏...(‏ والله سريع الحساب‏)‏ اي‏:‏ المجازاه‏(‏ او‏)‏ الذين كفروا اعمالهم السيئه‏(‏ كظلمات في بحر لجي‏)‏ عميق‏(‏ يغشاه موج من فوقه‏)‏ اي‏:‏ الموج‏(‏ موج من فوقه‏)‏ اي‏:‏ الموج الثاني‏(‏ سحاب‏)‏ غيم‏، هذه‏(‏ ظلمات بعضها فوق بعض‏)‏ ظلمه البحر‏، وظلمه الموج الاول‏، وظلمه‏(‏ الموج‏)‏ الثاني‏، وظلمه السحاب‏(‏ اذا اخرج‏)‏ الناظر‏(‏ يده‏)‏ في هذه الظلمات‏(‏ لم يكد يراها‏)‏ اي‏:‏ لم يقرب من رويتها‏(‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏)‏ اي‏:‏ من لم يهده الله لم يهتد‏.‏
وجاء في تفسير الظلال‏(‏ رحم الله كاتبه برحمته الواسعه‏)‏ ما نصه‏:‏ والتعبير يرسم لحال الكافرين ومالهم بمشهدين عجيبين‏، حافلين بالحركه والحياه‏.‏
في المشهد الاول يرسم اعمالهم كسراب في ارض مكشوفه مبسوطه‏، يلتمع التماعا كاذبا‏، فيتبعه صاحبه الظاميء‏، وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك‏..‏ يصل فلا يجد ماء يرويه‏...(‏ ووجد الله عنده‏)!‏ الله الذي كفر به وجحده‏، وخاصمه وعاداه‏، وجده هناك ينتظره‏!...(‏ فوفاه حسابه‏)..‏ و‏(‏الله سريع الحساب‏...).‏
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمه بعد الالتماع الكاذب‏، ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي‏، موج من فوقه موج من فوقه سحاب‏، وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض‏، حتي ليخرج يده امام بصره فلا يراها لشده الرعب والظلام‏!.‏
انه الكفر ظلمه منقطعه عن نور الله الفائض في الكون‏، وضلال لا يري فيه القلب اقرب علامات الهدي‏، ومخافه لا امن فيها ولا قرار‏...(‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏)...‏ ونور الله هدي في القلب‏، وتفتح في البصيره‏، واتصال في الفطره بنواميس الله في السماوات والارض‏، والبقاء بها علي الله نور السماوات والارض‏.‏ فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمه لا انكشاف لها‏، وفي مخافه لا امن فيها‏، وفي ضلال لا رجعه منه‏.‏ ونهايه العمل سراب ضائع يقود الي الهلاك والعذاب‏، لانه لا عمل بغير عقيده‏، ولا صلاح بغير ايمان‏.‏ ان هدي الله هو الهدي‏.‏ وان نور الله هو النور‏.‏
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ ما نصه‏:(‏ والذين كفروا‏)‏ بيان لحال الكافرين بضرب مثلين لاعمالهم‏، بعد بيان حال المومنين ومال امرهم‏.(‏ اعمالهم كسراب‏)‏ هو الشعاع الذي يري وسط النهار عند اشتداد الحر في الفلوات الواسعه‏;‏ كانه ماء سارب وهو ليس بشيء‏، ويسمي الال‏.(‏ بقيعه‏)‏ جمع قاع‏، وهو ما انبسط من الارض واتسع ولم يكن فيه نبت‏.‏ وفيه يتراءي السراب‏..(‏ يحسبه الظمان‏)‏ الذي اشتدت حاجته الي الماء‏(‏ ماء حتي اذا جاءه لم يجده شيئا‏)‏ مما حسبه وظنه‏.‏ شبه ما يعمله الكافر من انواع البر في الدنيا التي يظنها نافعه له عند الله ومنجيه له من عقابه من حيث هبوطها ومحو اثرها في الاخره‏، وخيبه امله فيها بسراب يراه الظمان في الفلاه وهو اشد ما يكن حاجه الي الماء فيحسبه ماء‏;‏ فياتيه فلا يجده شيئا فيخيب امله ويتحسر‏.(‏ ووجد الله عنده‏)‏ اي وجد حكمه تعالي وقضاءه‏(‏ فوفاه حسابه‏)‏ اعطاه وافيا كاملا جزاء كفره‏;‏ اما اجورهم عليها فيوفونها في الدنيا فقط‏.‏
‏(‏او كظلمات‏)‏ اي اعمالهم الحسنه في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق كظلمات‏(‏ في بحر لجي‏)‏ عميق كثير الماء‏(‏ يغشاه‏)‏ يعلوه ويغطيه‏(‏ موج من فوقه موج‏)‏ اخر‏(‏ من فوقه‏)‏ اي من فوق هذا الموج الاعلي‏(‏ سحاب‏)‏ قائم‏،(‏ ظلمات‏)‏ هذه ظلمات متراكمه‏(‏ بعضها فوق بعض‏)‏ ظلمه السحاب فوق ظلمه الموج فوق ظلمه البحر‏.(‏ اذا اخرج يده‏)‏ من ابتلي بها‏(‏ لم يكد يراها‏)‏ من تراكم الظلمات‏;‏ اي لم يقرب من رويتها فضلا عن ان يراها‏.‏ وقيل‏:(‏ او‏)‏ للتنويع‏، فشبهت اعمالهم الحسنه بالسراب‏، والسيئه بالظلمات‏(‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏)‏ اي من لم يشا الله سبحانه ان يهديه لنوره في الدنيا فما له من هدايه منها من احد وكل من اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم‏، وصاحب صفوه التفاسير‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ذكر كلاما مشابها وان اضاف الخبراء علي هامش المنتخب تفسيرا لظلمات البحر اللجي علي اساس من ان عواصف البحار العميقه او المحيطات تنطلق فيها امواج مختلفه الطول والسعه او الارتفاع‏، بحيث يبدو الموج منطلقا في طبقات بعضها فوق بعض‏، فيحجب ضياء الشمس‏، لما تثيره هذه العواصف من سحب‏...‏

الدلاله العلميه للايه الكريمه
تشير هذه الايه الكريمه الي الظلمه التامه فوق قيعان البحار العميقه والمحيطات‏، موكده انها ظلمه مركبه‏، يلعب كل من السحب‏، والامواج السطحيه‏، والامواج الداخليه دورا اساسيا في احداثها‏، وهي حقيقه لم يدركها الانسان الا في مطلع القرن العشرين‏.‏
ولما كانت الشمس هي مصدر الحراره والضوء ومختلف صور الطاقه الاخري‏(‏ فيما عدا الطاقه النوويه‏)‏ علي سطح الارض وعلي اسطح غيرها من اجرام المجموعه الشمسيه‏، كان لزاما علينا الرجوع الي المسافه الفاصله بين الارض والشمس للتعرف علي الحواجز التي يمكن ان تعترض اشعه الشمس في طريق وصولها الي الارض ومن اهمها الغلاف الغازي للارض‏، خاصه جزءه السفلي‏(‏ نطاق المتغيرات المناخيه او نطاق الرجع‏)‏ ومابه من سحب‏.‏

الظلمه الاولي تسببها السحب‏:‏
تتكون الاشعه الصادره من الشمس من كل الموجات الكهرومغناطيسيه ابتداء من الاشعه الراديويه الي الاشعه السينيه الا ان الغالب عليها هو الضوء المرئي وكل من الاشعه تحت الحمراء والاشعه فوق البنفسجيه‏، بالاضافه الي بعض الجسيمات الاوليه المتسارعه مثل الالكترونات‏، واغلب الاشعه فوق البنفسجيه يردها الي الخارج نطاق الاوزون‏.‏ وعند وصول بقيه اشعه الشمس الي الجزء السفلي من الغلاف الغازي للارض فان السحب تعكس وتشتت نحو‏30%‏ منها‏.‏
وتمتص السحب وما بها من بخار الماء وجزيئات الهواء وهباءات الغبار وغيرها من نوي التكثيف الاخري حوالي‏19%‏ من تلك الاشعه الشمسيه الماره من خلالها‏، تحجب السحب بالانعكاس والتشتيت والامتصاص حوالي‏49%‏ من اشعه الشمس‏، فتحدث قدرا من الظلمه النسبيه‏.‏

الامواج السطحيه في البحار والمحيطات تسبب الظلمه الثانيه
عند وصول ماتبقي من اشعه الشمس الي اسطح البحار والمحيطات فان حوالي‏35%‏ من الاشعه تحت الحمراء فيها تستهلك في تبخير الماء‏، وتكوين السحب‏، وفي عمليات التمثيل الضوئي‏.‏ التي تقوم بها النباتات البحريه‏.‏
اما مايصل الي سطح البحار والمحيطات مما تبقي من الاشعه المرئيه‏(‏ او الضوء الابيض‏).‏ فان الامواج السطحيه للبحار تعكس‏5%‏ اخري منها‏، فتحدث قدرا اخر من الظلمه النسبيه في البحار والمحيطات‏.‏

توهن ضوء الشمس المرئي بمروره في ماء البحار والمحيطات
الجزء المرئي من اشعه الشمس الذي ينفذ الي كتل الماء في البحار والمحيطات يتعرض لعمليات كثيره من الانكسار‏، والتحلل الي الاطياف المختلفه والامتصاص بواسطه كل من جزيئات الماء‏، وجزيئات الاملاح المذابه فيه‏، وبواسطه المواد الصلبه العالقه به‏، وبما يحيا فيه من مختلف صور الاحياء‏، وبما تفرزهتلك الاحياء من مواد عضويه‏، ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق‏.‏
والطيف الاحمر هو اول مايمتص من اطياف الضوء الابيض ويتم امتصاصه بالكامل علي عمق لايكاد يتجاوز عشره امتار‏، ويليه في الامتصاص الطيف البرتقالي ثم الطيف الاصفر والذي يتم امتصاصه بالكامل علي عمق لايتجاوز الخمسين مترا‏، ويلي ذلك الطيف الاخضر والذي يتم امتصاصه بالكامل علي عمق مائه متر في المتوسط‏، ويستمر الطيف الازرق بعد ذلك ليتم امتصاصه علي عمق يزيد قليلا علي المائتي متر‏، ولذلك يبدو ماء البحار والمحيطات باللون الازرق لتشتت هذا الطيف من اطياف الضوء الابيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائيه‏.‏
وبذلك فان معظم موجات الضوء المرئي تمتص علي عمق مائه متر تقريبا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات‏، ويستمر‏1%‏ منها الي عمق‏150‏ مترا‏، و‏0،01%‏ الي عمق‏200‏ متر في الماء الصافي الخالي من العوالق‏.‏
وعلي الرغم من السرعه الفائقه للضوء‏(‏ حوالي‏300،000‏ كيلومتر في الثانيه في الفراغ‏، وحوالي‏225،000‏ كيلومتر في الثانيه في الاوساط المائيه‏)، فانه لايستطيع ان يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد علي الالف متر‏، فبعد مائتي متر من اسطح تلك الاوساط المائيه يبدا الاظلام شبه الكامل حيث لاينفذ بعد هذا العمق سوي اقل من‏0،01%‏ من ضوء الشمس‏، ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتي يتلاشي تماما علي عمق لايكاد يصل الي كيلومتر واحد تحت مستوي سطح البحر‏.‏ حيث لايبقي من اشعه الشمس الساقطه علي ذلك السطح سوي واحد من عشره تريليون جزء منها‏، ولما كان متوسط اعماق المحيطات يقدر بنحو‏3795‏ مترا‏، وان اقصاها عمقا يتجاوز الاحد عشر كيلومترا بقليل‏(11،034‏ متر‏)‏ وبين هذين الحدين تتراوح اعماق البحار والمحيطات بين اربعه وخمسه كيلومترات في المتوسط‏، وبين ثمانيه وعشره كيلومترات في اكثرها عمقا‏.‏ فان معني ذلك ان اعماق تلك المحيطات تغرق في ظلام دامس‏.‏

الامواج الداخليه هي سبب الظلمه الثالثه فوق قيعان البحار العميقه
بالاضافه الي تحلل الضوء الابيض عند مروره في ماء البحار والمحيطات فان السبب الرئيسي في احداث الاظلام التام فوق قيعان البحار اللجيه‏(‏ اي الغزيره الماء لعمقها حتي لايكاد يدرك لها قاع‏، والمتلاطمه الامواج لقول العرب‏(‏ التج البحر‏)‏ اي‏:‏ تلاطمت امواجه‏)‏ هي الامواج الداخليه في تلك البحار العميقه وغير المتجانسه‏.‏
وتتكون هذه الامواج الداخليه بين كتل الماء ذات الكثافات المختلفه‏، وتختلف كثافه الماء في البحار العميقه والمحيطات باختلاف كل من درجه حرارته‏، ونسبه الاملاح المذابه فيه‏، وتتمايز كتل الماء في تلك المسطحات المائيه الكبيره افقيا بتمايز مناطقها المناخيه‏، وراسيا بتمايز كثافتها‏.‏ وتتحرك التيارات المائيه افقيا بين مساحات شاسعه من خطوط العرض فتكتسب صفات طبيعيه جديده من درجات الحراره والملوحه بسبب تغير معدلات التسخين او التبريد‏، ومعدلات البخر او سقوط الامطار‏، مما يضطرها الي التحرك راسيا كذلك‏.‏
وتمايز الماء في البحار العميقه والمحيطات الي كتل سطحيه‏، وكتل متوسطه‏، وكتل شبه قطبيه‏، وكتل حول قطبيه ولايتمايز الماء الي تلك الكتل الا في البحار شديده العمق‏، ومن هنا فان الامواج الداخليه لاتتكون الا في مثل تلك البحار العميقه‏، ومن هنا ايضا كان التحديد القراني بالوصف بحر لجي اعجازا غير مسبوق‏.‏
وتتكون الامواج الداخليه عند الحدود الفاصله بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافه‏، وهي امواج ذات اطوال وارتفاعات تفوق اطوال وارتفاعات الامواج السطحيه بمعدلات كبيره‏، حيث تتراوح اطوالها بين عشرات ومئات الكيلومترات‏، وتصل سعتها‏(‏ اي ارتفاع الموجه‏)‏ الي مائتي متر‏، وتتحرك بسرعات تتراوح بين‏100،5‏ سنتيمتر في الثانيه لمدد تتراوح بين اربع دقائق وخمس وعشرين ساعه‏.‏
وعلي الرغم من ذلك فهي امواج لايمكن رويتها بطريقه مباشره‏، وان امكن ادراك حركتها باجهزه ميكانيكيهوذلك بواسطه عدد من القياسات للاضطرابات التي تحدثها تلك الامواج الداخليه‏، وهذا ايضا مما يجعل الاشاره القرانيه اليها اعجازا لاينكره الا جاحد‏.‏
كذلك يبدا تكون الامواج الداخليه علي عمق‏40‏ مترا تقريبا من مستوي سطح الماء في المحيطات حيث تبدا صفات الماء فجاه في التغير من حيث كثافتها ودرجه حرارتها‏، وقد تتكرر علي اعماق اخري كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافه‏، وعجز الانسان في زمن الوحي ولقرون متطاوله من بعده عن الغوص الي هذا العمق الذي يحتاج الي اجهزه مساعده خاصه مما يقطع باعجاز علمي في هذه الايه الكريمه باشارتها الي تلك الامواج الداخليه‏، وهي امواج لم يدركها الانسان الا في مطلع القرن العشرين‏(‏ سنه‏1904‏ م‏).‏
ومن فوق هذه الامواج الداخليه تاتي الامواج السطحيه ومايصاحبها من العواصف البحريه والتي يحركها كل من الرياح والجاذبيه والهزات الارضيه‏، ودوران الارض حول محورها من الغرب الي الشرق‏، وحركات المد والجزر الناتجه عن جاذبيه كل من الشمس والقمر‏، وغير ذلك من العوامل المعروفه وغير المعروفه‏، وهذه الامواج السطحيه هي احد العوائق امام مرور كل اشعه الشمس الساقطه علي اسطح البحار والمحيطات‏، في مائها والوصول الي اعماقها‏، ولذلك فهي احد اسباب ظلمه تلك الاعماق‏، بالاضافه الي تحلل تلك الاشعه الي اطيافها وامتصاصها بالتدريج في الماء‏.‏
ومن فوق هذه الامواج السطحيه تاتي السحب التي تمتص وتشتت وترد الي صفحه السماء حوالي‏49%‏ من مجموع اشعه الشمس الواصله الي نطاق التغييرات المناخيه فتحدث قدرا من الظلمه النسبيه التي تحتاجها الحياه علي سطح الارض‏.‏
فسبحان الذي انزل من قبل الف واربعمائه سنه قوله الحق‏:‏
او كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏.(‏ النور‏:40)‏
والايه الكريمه جاءت في مقام التشبيه‏، ولكنها علي الرغم من ذلك جاءت في صياغه علميه دقيقه غايه الدقه‏، ومحكمه غايه الاحكام شان كل الايات القرانيه‏،ونزلت هذه الايه الكريمه في زمن لم يكن لاحد من الناس المام بتلك الحقائق العلميه ولابطرف منها‏، وظلت اجيال الناس جاهله بها لقرون متطاوله بعد زمن الوحي حتي تم الالمام بشيء منها في مطلع القرن العشرين‏.‏
ومع افتراض ان احدا من الناس قد ادرك في القديم دور السحب في احداث شيء من الظلمه علي الارض ودور الامواج السطحيه في احداث شيء من ذلك علي قيعان البحار والمحيطات‏(‏ وهو افتراض مستبعد جد‏)‏ فان من اوضح جوانب الاعجاز العلمي‏(‏ اي‏:‏ السبق العلمي‏)‏ في هذه الايه الكريمه هو تلك الاشاره المبهره الي الامواج الداخليه‏ (Internal Waves)‏ وهي امواج لايمكن رويتها بالعين المجرده ابدا‏، ولكن يمكن ادراكها بعدد من القياسات غير المباشره‏.‏
ومن جوانب السبق العلمي في هذه الايه الكريمه ايضا الاشاره الي الحقيقه المعنويه الكبري التي تصفها الايه بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):..‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏.‏
ثم تفاجئنا البحوث العلميه اخيرا بواقع مادي ملموس لتلك الحقيقه بالاضافه الي مضمونها المعنوي الجميل‏، فقد كان العلماء الي عهد قريب جدا لايتصورون امكانيه وجود حياه في اغوار المحيطات العميقه‏، اولا للظلمه التامه فيها‏، وثانيا للبروده الشديده لمائها‏، وثالثا للضغوط الهائله الواقعه عليها‏(‏ وزن عمود الماء بسمك يصل الي اربعه كيلومترات في المتوسط‏)، ورابعا للملوحه المرتفعه احيانا لذلك الماء‏، ولكن بعد تطوير غواصات خاصه لدراسه تلك الاعماق فوجيء دارسو الاحياء البحريه بوجود بلايين الكائنات الحيه التي تنتشر في تلك الظلمه الحالكه وقد زودها خالقها بوسائل اناره ذاتيه في صميم بنائها الجسدي تعرف باسم الاناره الحيويه‏ (Bioluminescence)، وتنتج هذه الاناره العجيبه عن طريق تفاعل فريد من نوعه بين جزئ لمركب كيميائي عضوي اسمه ليوسيفيرين‏ (Lucifer in)‏ وجزئ الاوكسجين في وجود انزيم خاص اسمه ليوسيفيريز‏ (Luciferase)، ويمثل هذا التفاعل الفريد عمليه الاكسده الوحيده المعروفه لنا في اجساد الكائنات الحيه التي لايصاحبها انتاج قدر مدرك من الحراره‏، ومن العجيب ان كل نوع من انواع هذه الاحياء الخاصه والتي تحيا في بيئات من الظلمه التامه له انواع خاصه من المركبات الكيميائيه المنتجه للضوء‏، وله انزيماته الخاصه ايضا‏، والسوال الذي يفرض نفسه‏:‏ من غير الله الخالق يمكنه ان يعطي كل نوع من انواع تلك الاحياء البحريه العميقه‏، هذا النور الذاتي؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القراني المعجز‏، كما يتضح بعده المعنوي الرفيع‏:‏ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‏، فسبحان الذي انزل القران الكريم‏، انزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله‏، وحفظه لنا بلغه وحيه‏(‏ اللغه العربيه‏)‏ حفظا كاملا بكل حرف‏، وكل كلمه‏، وكل ايه وكل سوره‏، فجاء ذلك كله معجزا غايه الاعجاز فالحمد لله رب العالمين علي نعمه القران وصلي الله وسلم وبارك علي هذا النبي الخاتم الذي تلقاه وعلي اله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين‏.‏

إرسال تعليق