بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 10 يونيو 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"

وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا * الفرقان:53*
هذه الايه الكريمه جاءت في مطلع الثلث الاخير من سوره الفرقان، وهي سوره مكيه، واياتها سبع وسبعون، وقد سميت بهذا الاسم الكريم( الفرقان)، وهو اسم من اسماء القران العظيم، لكونه فارقا بين الحق والباطل..
ويدور المحور الرئيسي للسوره حول قضيه العقيده الاسلاميه، ومن ركائزها: تنزيه الله( تعالي) عن كل وصف لا يليق بجلاله من مثل نسبه الولد زورا اليه، والادعاء الباطل بوجود شركاء له في ملكه، والهروب من الاعتراف بالحقيقه الجليه انه تعالي خالق كل شيء بتقدير دقيق، وحكمه بالغه، وان له( وحده) ملك السماوات والارض دون شريك، ولا شبيه، ولا منازع، وهي من صفات الالوهيه الحقه..
وتبدا سوره الفرقان بتمجيد الله وتعظيمه، وبالتاكيد علي انه( تعالي) هو الذي انزل القران الكريم علي خاتم انبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) فارقا بين الحق والباطل ليكون نذيرا للعالمين، في كل وقت وفي كل حين; وتنعي السوره الكريمه علي الذين كفروا انكارهم لتلك الحقيقه القائمه، وتطاولهم علي كل من كتاب الله وخاتم الانبياء والمرسلين، وانكارهم ليوم الدين، وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي):
قل انزله الذي يعلم السر في السماوات والارض انه كان غفورا رحيما [الفرقان:6].
كذلك تنعي عليهم تعنتهم بالاعتراض علي بشريه خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم)، وعلي محدوديه حظه من المال، وعلي تنزل القران منجما، وقد انزل كل من الكتب السابقه دفعه واحده; وتطاولهم بطلب الرساله السماويه من الملائكه مباشره; او طلب رويه الله جهره حتي يومنوا به، وهي صوره من صور الصلف الكافر الذي لا يفهم لمدلولات كل من الالوهيه والنبوه والرساله، حقيقه ولا معني صحيحا...!!
وتعرض السوره الكريمه لشيء من مشاهد الاخره، ولعذاب الكافرين في نار جهنم، وتقارن بين هذا العذاب المهين، وبين تكريم الله للمتقين في جنات النعيم...!!
كما تعرض لمصارع المكذبين في عدد من الامم السابقه علي هذه الارض، والي شيء من مصائرهم يوم القيامه، وندمهم علي ما قد فرطوا فيه من حقوق الله وحقوق عباده، وعلي انصرافهم عن اتباع الرسول الخاتم والنبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم)، وتوليهم لاهل الكفر والشرك والضلال، اتباعا لغوايه الشيطان، ولغوايه الغاوين من بني الانسان، وعباده لهوي النفس الذي يعمي ويصم عن رويه الحق، وعن الاستماع الي حجيته ومنطقه فيهوي ذلك بالانسان الي ما دون مستوي البهائم..!!
ويشكو المصطفي( صلي الله عليه وسلم) الي ربه هجر قومه للقران الكريم، وهذه الشكوي كما كانت قائمه في زمن النبوه تظل قائمه في كل زمان يهجر فيه القران، ويقصي عن مناط الحكم والتشريع...!!
وتعرج سوره الفرقان الي تخفيف الامر عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بتذكيره بان كافه الانبياء والمرسلين من قبله قد جوبهوا من قبل اهل الكفر والضلال بعداوه شديده، وبالتاكيد له علي ان الله( تعالي) عالم بذلك، مطلع عليه، ومجاز به، وتوصيه بالصبر والمصابره، وبمجاهده الكافرين بما في القران العظيم من حق ابلج، وتعينه علي ذلك بامره بالتوكل علي الله( تعالي)، الحي الذي لا يموت، وبالتسبيح دوما بحمده، وتعيد الي ذاكرته( صلي الله عليه وسلم) ان دوره هو دور البشير النذير..
وتقرر السوره الكريمه ان من صلف الكافرين وتطاولهم وضلالهم انكار الله الخالق( سبحانه وتعالي) وعباده من دونه ما لا ينفعهم ولا يضرهم، وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر علي ربه ظهيرا [الفرقان:55]..
ويقول( عز من قائل):
واذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن انسجد لما تامرنا وزادهم نفورا [ الفرقان:60].
وفي المقابل تنتقل السوره الكريمه الي استعراض عدد من صفات عباد الرحمن، في مقارنه رائعه بين صفات اهل الحق وصفات اهل الباطل، موكده جزاء الصالحين بالخلود في جنات النعيم، في حفاوه وتكريم من الله وملائكته، وتنتهي بتاكيد هوان البشريه كلها علي الله( تعالي) لولا تلك الطائفه القليله من عباده الصالحين الذين يعرفون معني الالوهيه والربوبيه الحقه لجلال الله الخالق( سبحانه وتعالي) فيجارون بالدعاء له طلبا لرحمته ورضوانه، اما الغالبيه الساحقه من البشر الذين كفروا بالله، او اشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، لان الله( تعالي) قد تعهد ان يجزيهم بسوء اعمالهم جزاء ملزما..
وفي معرض الاستشهاد علي صدق ما جاء بهذه السوره المباركه وردت الاشاره الي العديد من الايات الكونيه التي منها:
(1) ان الله( تعالي) هو خالق كل شيء ومقدره تقديرا وفق علمه وحكمته وقدرته، وانه( تعالي) هو الذي يعلم السر في السماوات والارض.
(2) ان تشقق السماء بالغمام من بدايات انهيار النظام الكوني.
(3) الاشاره الي دوران الارض حول محورها بمد الظل وقبضه.
(4) تخصيص الليل للنوم والراحه، وتخصيص النهار لليقظه والجري وراء المعايش.
(5) ان الله( تعالي) هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، وانه( سبحانه وتعالي) هو الذي ينزل من السماء ماء طهورا ليحيي به ارضا ميته، ويسقيه مما خلق انعاما واناسي كثيرا.
(6) ان الله( تعالي) هو... الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا.
(7) ان الله( تعالي) هو... الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا....
(8) ان الله( تعالي) هو الذي خلق السماوات والارض في سته ايام( اي ست مراحل متتاليه).
(9) ان الله( تعالي) هو... الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.
(10) ان الله( تعالي) هو... الذي جعل الليل والنهار خلفه... وهي اشاره ضمنيه رقيقه الي حقيقه دوران الارض حول محورها امام الشمس.
وكل ايه من هذه الايات الكونيه العشر تحتاج الي مناقشه موضوعيه خاصه بها، ولما كان المقام لا يتسع لذلك اجدني مضطرا لقصر الحديث هنا علي ايه واحده منها الا وهي الايه الثالثه والخمسون المشار اليها هنا في النقطه السادسه اعلاه، التي تصف التقاء ماء النهر العذب الفرات بماء البحر الملح الاجاج، وقبل الولوج في ذلك اري لزاما علي ان اعرض لعدد من اقوال المفسرين السابقين في شرح هذه الايه الكريمه، ولشرح دلالات الغريب من الفاظها علي مسامع اهل عصرنا الذي نسي كثير من العرب فيه لغتهم الام ولغه كتاب دينهم العظيم.
من اقوال المفسرين
في تفسير الايه الكريمه التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي): وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا( الفرقان:53)..
ذكرابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله تعالي:( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اجاج) اي خلق الماءين الحلو والمالح، فالحلو كالانهار والعيون والابار. قاله ابن جريج واختاره، وهذا المعني لا شك فيه، فانه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات، والله( سبحانه وتعالي) انما اخبر بالواقع لينبه العباد الي نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب فرقه الله تعالي بين خلقه لاحتياجهم اليه انهارا او عيونا في كل ارض، بحسب حاجتهم وكفايتهم لانفسهم واراضيهم، وقوله تعالي:( وهذا ملح اجاج) اي مالح، مر، زعاف لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفه في المشارق والمغارب، البحر المحيط وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر، وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنه التي لا تجري، ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشده الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي اول كل شهر يحصل منها مد وفيض، فاذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتي ترجع الي غايتها الاولي، فاجري الله( سبحانه وتعالي) وهو ذو القدره التامه العاده بذلك; فكل هذه البحار الساكنه خلقها الله( سبحانه وتعالي) مالحه لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوي الارض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماوها ملحا كان هواوها صحيحا وميتتها طيبه، ولهذا قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وقد سئل عن ماء البحر: انتوضا به؟ فقال:( هو الطهور ماوه، الحل ميتته). وقوله تعالي:( وجعل بينهما برزخا وحجرا) اي بين العذب والمالح، وبرزخا اي حاجزا وهو اليبس من الارض( وحجرا محجورا) اي مانعا من ان يصل احدهما الي الاخر كقوله تعالي:( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان)، وقوله تعالي:( وجعل بين البحرين حاجزا االه مع الله بل اكثرهم لا يعلمون).....
وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه:( وهو الذي مرج البحرين) ارسلهما متجاورين( هذا عذب فرات) شديد العذوبه( وهذا ملح اجاج) شديد الملوحه( وجعل بينهما برزخا) حاجزا لا يختلط احدهما بالاخر( وحجرا محجورا) سترا ممنوعا به اختلاطهما.....
وجاء في تفسير الظلال( رحم الله كاتبه) ما نصه:... وهو الذي ترك البحرين، الفرات العذب والملح المر، يجريان ويلتقيان، فلا يختلطان ولا يمتزجان، انما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الانهار غالبا اعلي من سطح البحر، ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس الا شذوذا، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغي البحر وهو اضخم واغزر علي النهر الذي منه الحياه للناس والانعام والنبات، ولا يكون هذا التقدير مصادفه عابره وهو يطرد هذا الاطراد. انما يتم باراده الخالق الذي انشا هذا الكون لغايه تحققها نواميسه في دقه واحكام..
وقد روعي في نواميس هذا الكون الا تطغي مياه المحيطات الملحه لا علي الانهار ولا علي اليابسه حتي في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبيه القمر للماء الذي علي سطح الارض، ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما..
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران( رحم الله كاتبه) ما نصه:( مرج البحرين...) ارسل البحرين: العذب والملح في مجاريهما متجاورين; كما ترسل الخيل في المرج. يقال: مرج الدابه يمرجها، ارسلها ترعي. او خلطهما فامرج احدهما في الاخر وافاضه فيه; من المرج واصله الخلط. يقال: مرج امرهم يمرج، اختلط; ومنه قيل للمرعي: مرج; لاجتماع اخلاط من الدواب فيه.
( عذب فرات) شديد العذوبه، مائل الي الحلاوه وهو ماء الانهار. وسمي فراتا لانه يفرت العطش، اي يقطعه ويكسره.( ملح اجاج) شديد الملوحه والمراره، وهو ماء البحار. سمي اجاجا من الاجيج وهو تلهب النار، لان شربه بزيد العطش.( وبرزخا) حاجزا عظيما من الارض، يمنع بغي احدهما علي الاخر; لحفظ حياه الانسان والنبات; كما قال تعالي:( بينهما برزخ لا يبغيان).( وحجرا محجورا) اي وجعل كل واحد منهما حراما محرما علي الاخر ان يفسده. والمراد: لزوم كل منهما صفته; فلا ينقلب العذب في مكانه ملحا ولا الملح في مكانه عذبا..
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: والله هو الذي اجري البحرين: البحر العذب والبحر الملح، وجعل المجري لكل واحد يجاور المجري الاخر، ومع ذلك لا يختلطان، نعمه ورحمه بالناس..
وجاء في تعليق الخبراء العلميين بالهامش ما يلي:.. قد تشير هذه الايه الي نعمه الله علي عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبه من الشاطئ بالماء العذب المتسرب اليها من البر اختلاطا تاما بل انهما يلتقيان مجرد تلاق يطفو العذب منها فوق الملح كان بينهما برزخا يمنع بغي احدهما علي الاخر، وحجرا محجورا، اي حاجزا خفيا مستورا لا نراه..
وليس هذا فقط بل ان هناك قانونا ثابتا يحكم هذه العلاقه ويتحكم فيها لمصلحه البشر ممن يسكنون في تلك المناطق وتتوقف حياتهم علي توافر الماء العذب، فقد ثبت ان طبقه الماء العذب العليا يزداد سمكها مع زياده الارتفاع عن منسوب البحر بعلاقه منتظمه حتي انه يمكن حساب العمق الاقصي للماء العذب الذي يمكن الوصول اليه. فهو يساوي قدر الفرق بين منسوب الارض ومنسوب البحر اربعين مره..
وجاء في صفوه التفاسير( جزي الله كاتبه خير الجزاء) ما نصه:( وهو الذي مرج البحرين) اي هو تعالي بقدرته خلي وارسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان( هذا عذب فرات) اي شديد العذوبه قاطع للعطش من فرط عذوبته( وهذا ملح اجاج) اي بليغ الملوحه، مر شديد المراره( وجعل بينهما برزخا) اي جعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب احدهما علي الاخر( وحجرا محجورا) اي ومنعا من وصول اثر احدهما الي الاخر وامتزاجه به.....
الدلالات اللفظيه لبعض كلمات الايه الكريمه
(1)( مرج): ذكرت معاجم اللغه( كمعجم ابن فارس) ان الميم، والراء، والجيم اصل صحيح يدل علي المجيء والذهاب والاضطراب، وقالوا:( مرج) الخاتم في الاصبع اي قلق واضطرب لاتساعه عن حجم الاصبع; ومنه قيل:( مرجت) امانات القوم وعهودهم اي اضطربت واختلطت; و(مرج) الامر اختلط، ومنه الهرج والمرج، وامر( مريج) اي مختلط، و(المرج) في اللغه هو مرعي الدواب، اي الارض التي يكثر فيها النبات فتمرج فيه الدواب وتختلط; ولذلك قيل:( مرج) الدابه و(امرجها) اي ارسلها ترعي وتختلط بغيرها من الحيوانات في المرعي ف(مرجت)، لان اصل( المرج) هو الخلط، و(المروج) هو الاختلاط، وقوله( تعالي):( مرج البحرين) اي افاض احدهما بالاخر، وجعلهما يختلطان دون امتزاج كامل اي دون ان يلتبس احدهما بالاخر التباسا كاملا..
و(مارج) من نار اي: لهب من نيران مختلطه لا دخان لها..
(2)( عذب فرات): الماء( العذب) هو الماء الطيب المذاق، و(الفرات) هو الشديد العذوبه; والبحر العذب الفرات هو النهر لشده عذوبه مائه.
(3)( ملح اجاج): الماء( الملح الاجاج) هو، الماء شديد الملوحه والمراره; وما كان من الماء( ملحا اجاجا) هو ماء البحر علي اختلاف درجات ملوحته.
يقال:( ملح) القدر اي: طرح فيها الملح بقدر، و(املحها) اي: افسدها بالملح، و(ملحها تمليحا) مثله..
ويقال:( ملح) الماء( بالفتح والضم) فهو ماء( ملح); وقليب( مليح) اي: ماوه قليل الملوحه; و(الملاحه) منبت الملح; و(المملحه)( بكسر الميم) ما يجعل فيه( الملح); و(الملاح) صاحب السفينه..
ويقال:( اجج) النار اي: زادها اشتعالا وتلهبا، لان( الاجج) هو تلهب النيران، من( اجت) النار( توج)( اجيجا) و(اجوجا)، و(اججها) غيرها( فاتجت) و(تاججت)، وسمي الماء الشديد الملوحه( بالاجاج) لانه يحرق معي الانسان اذا شربه من شده ملوحته.
(4)( برزخ):( البرزخ) هو الحاجز والحد بين الشيئين; وهو ايضا ما بين الدنيا والاخره من وقت الموت الي البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ; وفي تفسير قوله( تعالي):( وجعل بينهما برزخا...) قال عدد من المفسرين هو حاجز من الارض، وقال البعض الاخر هو حاجز او حائل او مانع من قدره الله( تعالي) لا يراه احد من الناس.
(5)( الحجر المحجور): هو الحرام المحرم، و(الحجر)( بكسر الحاء وضمها وفتحها) هو المنع والتضييق. يقال:( حجر) القاضي عليه اي: منعه عن التصرف في ماله; و(حجر) الانسان( بكسر الحاء وفتحها) واحد( الحجور)، ويقال:( احتجر حجره) اي: اتخذها مسكنا، والجمع( حجر)، و(حجرات)..
و(الحجر) ايضا هو العقل لانه يحجر صاحبه ويمنعه من الجري وراء شهواته والتهافت علي ما لا ينبغي له، ويضبطه ويقهره علي ذلك.
الدلاله العلميه للايه الكريمه
تطلق لفظه( البحر) في اللغه العربيه علي كل من النهر ذي الماء العذب، والبحر ذي الماء المالح; ولولا ان الله( تعالي) قد صمم الانهار لتفيض من تضاريس القارات المرتفعه فوق مستوي سطح البحر فتلقي بمائها العذب وبماتحمله من رسوبيات في هذا الخضم المالح، ولولا هذا النظام المحكم والمبهر في ترتيب مستويات كل من اليابسه وقيعان البحار والمحيطات لطغي ماء البحر المالح علي اليابسه بما فيها من ماء عذب، وافسدها افسادا كاملا، ودمر كل صور الحياه فيها; وليس هذا من قبيل الخيال العلمي، فقد مرت علي الارض فترات عديده طغت البحار فيها علي اليابسه الي مسافات تزيد علي حدودها الحاليه بمئات من الكيلو مترات، وذلك بارتفاع منسوب الماء في البحار والمحيطات، بل ان الارض قد بدات بمحيط غامر غمرا كاملا لسطحها، ثم بدات اليابسه في التكون بفعل الانشطه البركانيه المندفعه من قاع ذلك المحيط الغامر علي هيئه جزيره بركانيه ظلت تنمو حتي كونت القاره الام، التي بدات في التفتت الي مكوناتها الحاليه من القارات السبع منذ نحو مائتي مليون سنه مضت..
ومع استمرار نشاط الحركات الداخليه للارض، وانعكاس ذلك علي تحرك الواح غلافها الصخري، وما صاحبه من هزات ارضيه، وثورات بركانيه ومتداخلات ناريه، تكونت السلاسل الجبليه التي اعطت سطح الارض تضاريسه الشامخه، ولولا تلك التضاريس ما كان من الممكن فصل الماء العذب عن الماء المالح ابدا..
ومع دوره الماء حول الارض التي تحركها بتدبير من الله( تعالي) كل من حراره الشمس، وتصريف الرياح، وازجاء السحب، والتاليف بينها، وبسطها او ركمها، وتكثف قطرات الماء فيها، وانزال المطر او البرد او الثلج منها باذن الله، وحيثما شاء وبالقدر المقسوم تشكل سطح الارض، وشقت الفجاج والسبل، وسالت الانهار والجداول، وتدفق الماء في الاوديه، ودارت دورات عديده علي سطح الارض، ولولا ذلك لفسد ماء الارض منذ اللحظه الاولي لخروجه من داخلها..
دوره الماء حول الارض
تبخر اشعه الشمس سنويا بتقدير من الله( تعالي) ما مجموعه(380.000) كيلو متر مكعب من الماء من اسطح كل من البحار والمحيطات(320.000 كيلو متر مكعب)، ومن اليابسه بما عليها من مسطحات مائيه وجليد، وكائنات(60.000 كيلو متر مكعب)، وهذا القدر من بخار الماء يتكثف في نطاق التغيرات المناخيه( نطاق الرجع) الذي يشكل الجزء السفلي من الغلاف الغازي للارض فيعود اليها مطرا او ثلجا او بردا(284.000 كم3 منها تنزل علي البحار والمحيطات، و96.000كم3 تنزل علي اليابسه) والفارق وقدره(36.000 كم3) من الماء يفيض من اليابسه الي البحار والمحيطات سنويا حاملا معه ملايين الاطنان من الاملاح وفتات الصخور، وبذلك تكون الانهار من وسائط النقل الرئيسيه التي تنقل نواتج كل من عمليات التجويه والتحات والتعريه من اليابسه الي احواض البحار والمحيطات حيث تترسب الرواسب بتتابعات سميكه تتجمع فوق كل من الرصيف القاري وقيعان المحيطات العميقه، كما قد تتجمع فوق قيعان البحيرات..
وجزء من هذه الرواسب يترسب علي طول مجري النهر بفعل عدد من العمليات النهريه..
تكون دالات الانهار
تتكون دالات الانهار، والرواسب الدلتاويه نتيجه التفاعل بين كل من العمليات النهريه والعمليات الساحليه..
ولكل نهر حوض لتصريف مائه يعرف باسم حوض المصرف
(DrainageBasin)
او منطقه اصطياد المطر
(CatchmentArea)
او منطقه المجري ويمر النظام النهري بمراحل من الشباب، والنضج، والشيخوخه، ويرسب قدرا من حمولته في مجراه بما يعرف باسم مجموعه رواسب القناه
(ChannelDeposits)
ورواسب الشرف النهريه
(LeveeDeposits)
ورواسب سهل الفيضان او الرقه
(FloodPlainDeposits)
ورواسب المستنقعات
(SwampDeposits)
وتجمع كلها تحت مسمي رواسب فوق الضفه
(OverbankDeposits)..
وعموما تتجمع رسوبيات الدلتا فوق الارصفه القاريه الضحله الواسعه عند التقاء ماء النهر بماء البحر، وتنتج عن ذلك التجمع رواسب علي هيئه مخروطيه تتكون اساسا مما يحمله النهر ويلقي به عند مصبه في البحر فيترسب جزء منه فوق اليابسه ويتجمع الباقي تحت سطح الماء..
وتعتبر دلتا النهر وسطا انتقاليا بين ماء النهر العذب، وماء البحر المالح، وتحتوي عددا كبيرا من بيئات الترسيب المتباينه التي يتجاوز عددها الاثنتي عشره بيئه..
وكلما كانت كميه الرسوبيات التي يلقيها النهر عند مصبه اكبر من قدره كل من تيارات المد والجزر، والامواج والتيارات البحريه الموازيه للشاطئ علي ازالته; وتلعب التراكيب الجيولوجيه الكبيره( من مثل حركه الواح الغلاف الصخري للارض) دورا بارزا في ذلك..
عوامل تحكم نشاط النهر علي منطقه مصبه
عند مصبات الانهار عاده ما يضعف اثر كل من ظاهرتي المد والجزر، وشده الامواج والتيارات البحريه فتسود قوي ثلاث اخري هي: القصور الذاتي( او قوه واستمراريه تدفق تيار الماء في النهر)، وقدر الاحتكاك بالرسوبيات في قاع مجري النهر، وطفو الماء العذب فوق سطح الماء المالح..
وتبقي عوامل اخري مساعده من مثل معدلات تدفق الماء وسرعه تياره، وعمق الماء في مجري النهر، وكتله الرسوبيات التي يحملها ماء النهر. ففي ظل زياده سرعه تدفق تيار الماء في مجري النهر، وعمق الحوض البحري الذي يصب فيه، وتدني الفارق في كثافه الماءين الملتقيين يسود القصور الذاتي فيندفع ماء النهر الي البحر بشده علي هيئه نفاثات دواره تعزل ماء النهر عن ماء البحر وتوخر اختلاطهما وامتزاجهما حتي تضعف معدلات تدفق الماء فيبدا الامتزاج علي حواف كتله الماء العذب مكونا ماء قليل الملوحه يفصل ماء النهر عن ماء البحر باستمرار..
وفي كثير من الانهار يودي نقل كميات كبيره من نواتج عمليات التعريه علي هيئه الرسوبيات المحموله مع ماء النهر الي ترسيبها في منطقه مصبه مما يرفع منسوب قاع منطقه المصب ويجعل سمك الماء فيها قليلا خاصه في المنطقه بعد المصب مباشره مما يودي الي جعلها اعلي من منسوب قاع مجري النهر، وتظل هذه المنطقه تنمو باستمرار نتيجه لاندفاع الماء من النهر علي هيئه تيار نفاث يحتك بالرسوبيات المتجمعه فوق قاعه. وفي منطقه مصبه حتي يبني برزخا من تلك الرسوبيات عموديا علي اتجاه تدفق النهر فيحول دون امتزاج مائه مع ماء البحر امتزاجا كاملا لوجود هذا البرزخ من الرسوبيات ولتكون ماء قليل الملوحه علي حواف طبقه الماء العذب الرقيقه الطافيه فوق الماء المالح..
ويودي بناء هذا البرزخ الرسوبي الي تفرع مجري النهر الي فرعين( او اكثر) كل واحد منهما علي جانبي البرزخ نظرا لتباطو تدفق الماء نتيجه لضحاله المجري وشده احتكاك الماء بقاعه في اثناء جريانه; وقد يودي ذلك الي زياده نمو البرزخ علي هيئه حاجزوسطي كبير او تكرار ترسب اعداد من تلك البرازخ..
ولما كانت كثافه الماء العذب( في حدود جرام واحد/ سم3) اقل من كثافه الماء المالح( في حدود1.026 الي1.028 جرام/ سم3) فان الماء العذب يطفو فوق سطح الماء المالح علي الرغم مما يحمله من رسوبيات، ويسمي هذا التدفق المائي باسم التدفق المتباين الكثافه..
ويظل الماء العذب طافيا فوق الماء المالح حتي تتمكن كل من تيارات المد والجزر، والامواج والتيارات البحريه من المزج بين حواف هذه الطبقه الرقيقه من الماء العذب والماء المالح مكونه ماء قليل الملوحه يفصل بينهما، وهنا يتاثر تدفق الماء العذب بكل من قوه الاستمرار في الاندفاع( القصور الذاتي)، وشده الاحتكاك بقاع المجري، وفرق الكثافه بين الماءين العذب والمالح..
وفي حاله الانهار ذات التدفق العالي للماء، او عند فيضاناتها يكون التدفق الطافي للماء العذب فوق سطح الماء المالح هو السمه الغالبه لتدفق ماء تلك الانهار; ويزداد الاحتكاك برسوبيات القاع مما يودي الي تجمع كم هائل من الرسوبيات امام مصب النهر علي هيئه سدود نهريه مستقيمه وموازيه لمجري النهر تحت الماء في منطقه المصب، تحيط بالماء العذب من الجهتين فاصله اياه عن الماء المالح فتعينه بذلك علي مزيد من الاندفاع في داخل البحر..
كذلك تبني الرسوبيات سدا هائلا في مواجهه مجري النهر يعرف باسم حاجز توزيع الماء في مصب النهر
(Distributary-MouthBar) يتراوح عرضه بين اربعه وسته اضعاف عرض مجري النهر; وهذا الحاجز يفصل الماء قليل الملوحه( المتكون نتيجه لمزج جزء من ماء النهر العذب مع ماء البحر الملح) عن الماء العذب. ويتكرر تكون امثال هذا الحاجز عده مرات علي مسافات متباعده من مصب النهر حتي تتكون منطقه تعرف باسم منطقه توزيع ماء النهر تعمل علي مزيد من الفصل بين الانواع الثلاثه من الماء الموجود في مصبات الانهار وهي: الماء العذب، والماء قليل الملوحه، والماء الملح..
وعلي ذلك فان جميع النظم النهريه التي تصب في بحار تتميز بتداخلات معقده بين كل من العمليات النهريه والبحريه، منها عمليات المد والجزر، التي تعمل علي اختلاط الماءين مكونه ماء متوسط الملوحه يفصل بين هذين الماءين خاصه في حاله التدفقات النهريه الضعيفه، وتزداد عمليات الخلط بين ماء النهر وماء البحر كلما توغلنا في داخل البحر حتي يتحول الماء الي الطبيعه البحريه الكامله تاركا وراءه مراحل من الماء القليل الملوحه تعمل كفاصل بين الماءين.
كذلك تساعد عمليات المد والجزر علي تجميع الرسوبيات التي يلقي بها النهر علي هيئه حواجز رسوبيه علي مسافات من مصب النهر، ومتصله بفم النهر بواسطه حواجز طوليه موازيه لاتجاه تدفق النهر تحول دون امتزاج مائه بماء البحر..
وفي الحالات التي يسود فيها دور عمليات المد والجزر سياده واضحه يلاحظ ان مجري النهر يتسع عند مصبه اتساعا كبيرا علي هيئه الدلتا التي تعترضها تلال من رسوبيات النهر تعمل كذلك علي عزل مائه عن ماء البحر..
وهذه الحواجز الرسوبيه الطوليه والهلاليه الشكل المعترضه لمجري النهر، وكذلك الشرف النهريه الموازيه لمجراه والمندفعه من فم النهر الي داخل البحر تساعد كلها علي عزل ماء النهر العذب عن ماء البحر المحيط لاطول فتره ممكنه، ثم يتكون بينهما نطاق من الماء قليل الملوحه يزيد من عمليه الفصل تلك. وكل من الماء العذب والماء المالح له من صفاته الطبيعيه والكيميائيه ما يمكنه من البقاء منفصلا انفصالا كاملا عن الاخر علي الرغم من التقاء حدودهما عند مصب النهر، وذلك بتكوين برزخ من الرسوبيات امام فوهه النهر ومن حوله، ويودي ذلك الي تفرع الماء العذب الي فرعين او فروع من حوله، يتدفق منهما او منها الماء العذب مكونا طبقه رقيقه طافيه فوق الماء الملح، وتختلط به عند حوافها مكونه حزاما من الماء قليل الملوحه وذلك بفعل تيارات المد والجزر، والتيارات والامواج البحريه المختلفه، ويعمل هذا الحزام من الماء القليل الملوحه علي مزيد من الفصل بين المائين العذب والملح، ولكل بيئه من هذه البيئات الثلاث( الماء العذب، والماء قليل الملوحه والماء الملح) انواع خاصه من انواع الاحياء المائيه المحدوده بحدود بيئتها، وانواع خاصه من الرسوبيات التي تترسب منها، وبذلك تكون انواع الحياه في الماء القليل الملوحه مقصوره علي تلك البيئه، ومحجوره فيها، اي لا تستطيع الخروج منها والا هلكت، كما ان كل مجموعه من انواع الحياه في البيئتين الاخريين لاتستطيع دخول الماء القليل الملوحه والا هلكت، فيما عدا اعداد قليله جدا منها تستطيع العبور فيها دون بقاء طويل، ومن هنا كان هذا الماء القليل الملوحه حجرا علي الحياه الخاصه به، ومحجورا علي الحياه في البيئتين الاخريين من حوله.
وهذه حقائق لم يدركها الانسان الا في العقود المتاخره من القرن العشرين، وورودها في كتاب الله الذي انزل من قبل الف واربعمائه سنه، مما يقطع بان القران الكريم هو كلام الله الخالق، ويجزم بنبوه هذا النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم).. فسبحان الذي انزل قوله الحق:
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا[ الفرقان:53]..
وقال: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج ومن كل تاكلون لحما طريا وتستخرجون حليه تلبسونها.....
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
إرسال تعليق