بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 6-5-2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"

هذه الايه الكريمه جاءت في بدايه الخمس الثاني من سوره الحجر وهي سوره مكيه، نزلت بين عام الحزن وعام الهجره، ولذلك فقد جاءت السوره الكريمه بروح التثبيت لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) في مواجهه عناد ومكابره كفار قريش له، وتكذيبهم ببعثته الشريفه، وتشكيكهم في الوحي الذي جاءه من ربه، واتهامهم له زورا بالجنون، وهم اعرف الناس برجاحه عقله، وعظيم خلقه، وشرف نسبه.. ولذلك فان محور السوره الرئيسي يدور حول ابراز طبيعه المكذبين بدين الله الحق( الاسلام)، ودوافعهم لتكذيبه، وحول التاكيد علي سنن الله التي لا تتخلف ولا تتوقف عن عقاب المكذبين، في كل زمان وفي كل مكان، واستعراض مصارع عدد من هولاء الطغاه الكافرين، والمشركين، والمكذبين، المفسدين في الارض بغير حق، والمتجبرين علي الخلق، لعله يكون في ذلك عبره للمعتبرين في كل وقت وفي كل حين...!! وعدد ايات سوره الحجر تسع وتسعون; وقد سميت بهذا الاسم لذكر الحجر في الايه الثمانين منها، وهي مدائن صالح، ديار قبيله ثمود، وهي عباره عن بيوت منحوته في الصخر الثابت علي جانبي الوادي، او المجلوب الي بطن الوادي، وهي الان خربه، تقع الي الشمال الغربي من المدينه المنوره علي الطريق القديم بينها وبين مدينه تبوك.
وتستهدف سوره الحجر التذكير بالمقاصد الاساسيه للعقيده الاسلاميه، وقد استهلت بثلاثه من الحروف المقطعه وهي الر، والحروف المقطعه المعروفه باسم الفواتح الهجائيه تتكون من اربعه عشر حرفا، اي تضم نصف حروف الهجاء الثمانيه والعشرين، وقد وردت في اربع عشره صيغه، افتتحت بها تسع وعشرون سوره من سور القران الكريم، وقد جمعها بعض علماء السلف في عباره مبهره تقول: نص حكيم قاطع له سر وهو وصف للقران الكريم، وقد حاول عدد غير قليل من علماء المسلمين استجلاء كنه هذه الفواتح الهجائيه، وتوقف العدد الاكبر عن الخوض فيها، واكتفي بتفويض امرها الي الله( سبحانه وتعالي)، معتبرا اياها سرا من اسرار القران الكريم لم يتم اكتشافه بعد.
وتنتقل السوره الكريمه الي الاشاده بكتاب الله واياته، وروعه بيانه، ووضوح دلالاته، وتتابع بتهديد جازم للجاحدين من الكفار والمشركين بمشهد الاخره، وهم يعانون اهوالها، وقد استبان لهم الحق فيتمنون لو كانوا في الدنيا من المسلمين...!!
ومن قبيل التهوين من صلف هولاء الجاحدين تطلب الايات من رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ان يدعهم في غيهم ياكلون ويتمتعون، ويشغلهم الامل بطول الاجل عن التفكير فيما سوف يلقونه من شقاء في الدنيا، وعذاب مهين في الاخره جزاء كفرهم وعنادهم وكبرهم...!!
وهذا التهديد والوعيد من الله( تعالي) لهولاء الكفار والمشركين ولامثالهم من التابعين لهم يليه مباشره تذكير بمصائر غيرهم من الامم الظالمه، البائده، التي لم يهلك الله( تعالي) ايا منها الا وجعل لهلاكها اجلا محددا.
وتذكر الايات في سوره الحجر تحديات كفار قريش لرسول الله( صلي الله عليه وسلم)، واستهزاءهم به، واستنكارهم لبعثته الشريفه حتي طلبوا منه ان ياتيهم بالملائكه، ليشهدوا علي صدق نبوته، وترد الايات عليهم بان الملائكه لا تنزل الا بالحق، وان من هذا الحق ان يدمر الله( سبحانه وتعالي) المكذبين باياته ورسله بعد ان جاءتهم نذره...!!
وتوكد سوره الحجر ان الله( تعالي) هو الذي انزل القران العظيم، وهو( سبحانه) الذي تعهد بحفظه فحفظ بصفائه الرباني، ولغه وحيه العربيه علي مدي يزيد علي الاربعه عشر قرنا، والي ان يرث الله( تعالي) الارض ومن عليها، فلا يمكن لتحريف ان يطوله، ولا لتبديل حرف واحد ان يصيبه، ولا لضياع ان يغيبه...، وهذا الحفظ الرباني لاخر الكتب السماويه واتمها واكملها لهو بحق من اعظم المعجزات لهذا الكتاب الرباني الخالد الذي كذب به كفار قريش، كما يكذب به كفار هذا الزمن ومشركوه وملاحدته...!!
ومن قبيل تثبيت رسول الله( صلي الله عليه وسلم)، وتهوين الامر عليه وعلي اتباعه الصالحين في كل زمان ومكان، تذكر الايات ان هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( عليه افضل الصلاه وازكي التسليم) لم يكن منفردا دون غيره من رسل الله بجحود قومه وتكذيبهم ومكابرتهم، وعنادهم واستهزائهم، فما من نبي ولا من رسول سبقه الا وتعرض لذلك واشد منه، فاستحقت اقوامهم المكذبه عقاب الله في الدنيا، ولعذاب الاخره اشد وانكي...!! وذلك لانهم لم يكن ينقصهم الدليل المنطقي علي صدق الوحي، وعلي ضروره الايمان به، ولكنه الصلف، والعناد، والمكابره في مقابله الحق...!!
وتصور لنا الايات في اول سوره الحجر نموذجا صارخا لمكابره اهل الباطل، وعنادهم في مواجهه الحق، وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا انما سكرت ابصارنا بل نحن قوم مسحورون
(الحجر:15،14).
وفي وصف سوره الحجر بطبيعه المكذبين بهذا الدين، ودوافعهم لتكذيبه عن عناد لا عن نقص في ادله الايمان، وتصوير مصارعهم ومصائرهم المروعه، توكد سنن الله التي لا توقف ولا تتخلف ابدا في جزاء المومنين وعقاب المكذبين; وتستعرض عددا من ايات الله في الكون، وفي الحياه والموت لدحض دعاوي المكذبين; وتذكر بخلق ادم( عليه السلام، وبسجود الملائكه له، وبقصه الشيطان الرجيم معه، ومحاوله غوايته له، وللغافلين من ذريه ادم من بعده الي يوم الدين، كما تعرض لاصل الهدي والضلال في هذه الحياه الدنيا وجزاء كل منهما. ثم تستعرض بشيء من التفصيل مصارع المكذبين من اقوام كل من انبياء الله: لوط وشعيب وصالح( علي رسولنا وعليهم من الله السلام)، وتعرض لشيء من رحمات الله مع كل من نبييه ابراهيم ولوط ( علي نبينا وعليهما الصلاه والسلام).
وتتحدث سوره الحجر في خواتيمها عن خلق السماوات والارض وما بينهما بالحق، وتوكد ان الساعه اتيه لا ريب فيها...، وان الله( تعالي) هو الخلاق العليم، وتوصي بعدد من الوصايا لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) منها ان يعلن انه( صلي الله عليه وسلم) هو النذير المبين، وان يصدع بما يومر، وان يعرض عن المشركين، فان الله( تعالي) قد كفاه سفه المستهزئين من الكفار والمشركين الذين كانت سفاهتهم توذي مشاعره وتولمه( صلي الله عليه وسلم) فيضيق صدره، وتوصيه الايات ان يفزع الي الله( تعالي) كلما اصابه شيء من ذلك، وان يعبد الله( تعالي) حتي ياتيه اليقين...!!
وسوره الحجر في خطابها الي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) هي خطاب للقائمين علي الدعوه الاسلاميه في كل زمان ومكان... خاصه في زماننا الحالي... زمن الغطرسه والكبر لاهل الكفر والشرك والضلال وفي مقدمتهم الامريكيون والبريطانيون، وضيعتهم الحركه الصهيونيه العالميه... وشياطينها المحتلون لارض فلسطين العربيه المسلمه، فملاوها ظلما وجورا وفسادا علي مدي نصف قرن او يزيد قليلا، والذين ندعو الله( تعالي) ان يطهر الارض من رجسهم ودنسهم في اقرب وقت ممكن ان شاء الله رب العالمين امين امين امين يارب العالمين. وكما هددت سوره الحجر المكذبين من الكفار والمشركين في زمن الوحي، وتوعدتهم بمصارع الغابرين... فانها تتهدد كفار ومشركي اليوم والي قيام الساعه بمثل عقاب الغابرين الهالكين...!!!
والايات الكونيه والتاريخيه التي استشهدت بها سوره الحجر تشمل ما يلي:
(1) اثبات ان السماء بناء محكم شاسع الاتساع.
(2) تسميه الحركه في السماء بالعروج.
(3) اثبات ان الكون يغشاه الظلام الدامس في اغلب اجزائه وان طبقه نور النهار طبقه رقيقه للغايه.
(4) الاشاره الي بروج السماء، والي حفظها من كل شيطان رجيم.
(5) الاشاره الي شيء من وظائف الشهب.
(6) الاشاره الي كرويه الارض بذكر مدها لان المد الي ما لا نهايه هو قمه التكوير.
(7) ذكر ارساء الارض بالجبال.
(8) اثبات كل شيء موزون في الارض.
(9) اعداد المعايش للانسان والحيوان والنبات علي الارض بمعني تهيئه الارض لاستقبال الحياه بمختلف صورها.
(10) اثبات ان خزائن كل شيء عند الله وما ينزله الا بقدر معلوم.
(11) ارسال الرياح لواقح للسحب من اجل انزال ما بها من بخار الماء علي هيئه ماء المطر لسقيا الانسان والحيوان والنبات وتخزين جزء من ماء المطر في صخور الارض.
(12) اثبات الاحياء من العدم والاماته والبعث لله الحي الذي لا يموت.
(13) خلق الانسان من صلصال من حما مسنون، وخلق الجان من نار السموم.
(14) خلق السماوات والارض وما بينهما بالحق.
(15) نسبه الخلق كله الي الله الخلاق العليم.
(16) الانباء بطرف من قصص كل من ادم، وابراهيم، واقوام عدد من انبياء الله منهم لوط، وشعيب، وصالح( علي نبينا وعليهم اجمعين افضل الصلاه وازكي التسليم).
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي تفصيل لا يتسع له المقال ولذلك فسوف اقتصر هنا علي قضيه ارسال الرياح لواقح للسحب من اجل انزال ما بها من بخار الماء علي هيئه ماء المطر لسقيا كل من الانسان والحيوان والنبات، وهي قضيه لم يتوصل الانسان الي فهمها الا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وسبق القران الكريم بالاشاره اليها من قبل اثني عشر قرنا هو من ايات الاعجاز العلمي فيه، وقبل الدخول الي ذلك اوجز اقوال عدد من المفسرين في شرح دلاله هذه الايه الكريمه.
من اقوال المفسرين
دوره الماء حول الارض
في تفسير قوله( تعالي): وارسلنا الرياح لواقح فانزلنا من السماء ماء فاسقيناكموه وما انتم له بخازنين ( الحجر:22).
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:( وارسلنا الرياح لواقح) اي تلقح السحاب فتدر ماء، وتلقح الشجر فتفتح عن اوراقها واكمامها، وذكرها بصيغه الجمع ليكون منها الانتاج بخلاف الريح العقيم، فان افردها وصفها بالعقيم وهو عدم الانتاج، وقال اعمش، عن عبدالله بن مسعود في قوله( تعالي):( وارسلنا الرياح لواقح) قال: ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتي تدر كما تدر اللقحه، وقال الضحاك: يبعثها الله علي السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء، وقال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المبشره فتقم الارض قما، ثم يبعث الله المولفه فتولف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا:( وارسلنا الرياح لواقح).
وقوله تعالي( فاسقيناكموه) اي انزلناه لكم عذبا يمكنكم ان تشربوا منه... وقوله:( وما انتم له بخازنين)، قال سفيان الثوري: بما نعين; ويحتمل ان المراد: وما انتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الارض، ولو شاء الله( تعالي) لاغاره وذهب به، ولكن من رحمته انزله وجعله عذبا وحفظه في العيون والابار والانهار، ليبقي لهم طول السنه يشربون ويسقون انعامهم وزروعهم وثمارهم....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) ما نصه:( وارسلنا الرياح لواقح) تلقح السحاب فيمتلئ ماء( فانزلنا من السماء) السحاب( ماء) مطرا( فاسقيناكموه وما انتم له بخازنين) اي: ليست خزائنه بايديكم [ او لستم انتم الخازنين له]...
وجاء في الظلال( علي كاتبها من الله الرضوان) ما نصه:... ارسلنا الرياح لواقح بالماء، كما تلقح الناقه بالنتاج; فانزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح، فاسقيناكموه فعشتم به:( وما انتم له بخازنين)... فما من خزائنكم جاء، انما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم.
والرياح تنطلق وفق نواميس كونيه، وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس; وتسقط الماء كذلك بحسبها ولكن من الذي قدر هذا كله من الاساس؟ لقد قدره الخالق، ووضع الناموس الكلي الذي تنشا عنه كل الظواهر....
وجاء في الهامش: اراد بعضهم ان يفسر لواقح هنا بالمعني العلمي الذي كشف وهو ان الرياح تحمل اللقاح من شجره الي شجره، ولكن السياق هنا يشير الي انها لواقح بالماء دون سواه....
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران( رحم الله كاتبه رحمه واسعه) ما نصه:( وارسلنا الرياح لواقح) حوامل، جمع لاقح بمعني حامل; لحملها الماء والتراب بمرورها عليهما، وحملها السحاب وسوقه واستدراره. وهي ملقحه تلقح السحاب بما تمجه فيها من بخار الماء....
وذكر كتاب المنتخب في تفسير القران الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: قد ارسلنا الرياح حامله بالامطار وحامله بذور الانبات، وانزلنا منها الماء وجعلناه سقيا لكم، وان ذلك خاضع لارادتنا ولا يتمكن احد من التحكم فيه حتي يصير عنده كالخزائن.
وجاء في الهامش هذا التعليق: سبقت هذه الايه ما وصل اليه العلم من ان الرياح عامل مهم في نقل حبوب اللقاح الي الاعضاء المونثه في النبات ليتم بذلك عقد الثمار، كما انه لم يعرف الا في اوائل القرن الماضي( القرن العشرين) ان الرياح تلقح السحاب بما ينزل بسببه المطر اذ ان نويات التكاثف او النويات التي تتجمع عليها جزيئات بخار الماء لتكون نقطا من الماء ناميه داخل السحب هي المكونات الاولي من المطر تحملها الرياح الي مناطق اشاره السحاب وقوام هذه النويات املاح البحار وما تذروه الرياح من سطح الارض والاكاسيد والاتربه ونحوها كلها لازمه للامطار.
لقد ثبت في العلم حديثا ان للمطر دوره مائيه، تبدا بتبخر المياه من سطح الارض والبحر ثم تعود اليه مره ثانيه علي نحو ما سلف ذكره، فاذا ما نزل المطر استقي منه كل حي علي الارض كما تستقي منه الارض نفسها، ولا يمكن التحكم فيه لانه بعد ذلك يتسرب من الاحياء ومن الارض الي التبخر، ثم تبدا الدوره ثانيه بالتبخر وهكذا دواليك. ومن هذا يستبين معني الايه في قوله تعالي( وما انتم له بخازنين) اي: ما نعيه من النزول من السماء ولا التسرب اليها علي صوره البخار....
وجاء في صفوه التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) ما نصه:( وارسلنا الرياح لواقح) اي تلقح السحاب فيدر ماء، وتلقح الشجر فيتفتح عن اوراقه واكمامه، فالريح كالفحل للسحاب والشجر( فانزلنا من السماء ماء فاسقيناكموه) اي فانزلنا من السحاب ماء عذبا، جعلناه لسقياكم ولشرب ارضكم ومواشيكم( وما انتم له بخازنين) اي لستم بقادرين علي خزنه بل نحن بقدرتنا نحفظه لكم في العيون والابار والانهار، ولو شئنا لجعلناه غائرا في الارض فهلكتم عطشا....
ارسال الرياح لواقح في منظور العلوم المكتسبه
تعرف الرياح بانها الهواء المتحرك بالنسبه لبقيه الغلاف الغازي المحيط بالارض; وهذا الغلاف الغازي اخرجه الله( تعالي) اصلا من داخل الارض ولا يزال يخرجه عبر فوهات البراكين في اثناء ثوراتها، وعندما اخرج هذا الغاز اختلط بالدخان الكوني الناتج عن عمليه الانفجار العظيم، وعن التفاعلات النوويه داخل النجوم، وعن انفجار بعض الاجرام السماويه فتكون الغلاف الغازي للارض من خليط بعضه من الارض والبعض الاخر من السماء ولذلك يصفه القران الكريم بالبينيه التي يقول فيها:
وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق... (الحجر:85).
وقد ذكر هذه البينيه الفاصله بين السماوات والارض في احدي وعشرين ايه قرانيه، واكد تعريفها قول الحق( تبارك وتعالي):... وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون ( البقره:164).
والغلاف الغازي للارض يمتد الي عده الاف من الكيلو مترات في السمك وتقدر كتلته بنحو سته الاف مليون مليون طن، ولكن بما ان99% من كتلته تقع دون ارتفاع خمسين كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر ( اي دون مستوي الركود الطبقي المعروف في اللغه الانجليزيه باسم Stratopause) فان دراسه حركه الرياح تكاد تتركز اساسا في هذا الجزء السفلي من الغلاف الغازي للارض.
وتقسم الرياح علي اساس من ارتفاعها فوق مستوي سطح البحر الي ثلاثه مستويات علي النحو التالي:
(1) الرياح السطحيه: تمتد من مستوي سطح البحر الي بضعه كيلو مترات قليله فوقه، وهي من اهم العوامل في تشكيل سطح الارض حيث تباشر عمليه تاكل صخور ورسوبيات وتربه سطح الارض، وتوزيعها حيثما وجدت تلك المواد غير مغطاه بوقاء من النبات او غيره فهي من اقوي عوامل التعريه خاصه في الصحاري والقفار، وتاتي في المقام الثاني بعد الماء في اشكاله المختلفه كعامل رئيسي من عوامل تعريه الارض.
والرياح السطحيه اذ تعصف علي سطح الصحاري تحمل معها كميات كبيره من فتات الصخور السائبه والمفروطه لالاف الكيلو مترات في الاتجاه الافقي، وترتفع ببعضها من الدقائق الناعمه ضد الجاذبيه الارضيه لعده كيلو مترات.
كذلك فان حركه هذه الرياح السطحيه تضبط الظروف المناخيه، وذلك بتوزيع درجات كل من الحراره والرطوبه علي سطح الارض، وهذه تلعب دورا مهما في توزيع مناطق الضغط المرتفع والمنخفض علي سطح الارض، ومن ثم حركه الرياح.
هذا بالاضافه الي ان تكثف الرطوبه في الهواء يودي الي تكون السحاب، وانتشار نوي التكثف في السحاب يعين علي نمو قطيرات الماء المتكثفه الي احجام تفوق قدره حمل الهواء لها فتسقط باذن الله( تعالي) مطرا، او بردا، او ثلجا. وهذه كلها تلعب دورا مهما في تجويه الصخور وتفتيتها. وفي غمار ذلك كله لا يمكن نسيان دور الرياح في اثاره الامواج البحريه وتياراتها، واثر ذلك في تاكل الصخور علي طول الشواطئ البحريه، وفي استقبال ما يصل البحر من رواسب البر.
ودور الرياح السطحيه في نقل ما تفكك وانفرط من الغطاء الصخري المكون لاديم الارض كالرمل والغرين والغبار، والتحرك به الي مسافات بعيده والي ارتفاعات شاهقه ثابت علميا، ويبلغ ذلك مداه اذا ما تناهت الحبيبات دقه، وجفت وتعرت اي لم يكن يحميها غطاء من نبات او غيره، وتتوقف المسافه التي يحمل اليها هذا الفتات افقيا وراسيا علي تضاريس موضعه الاصلي، وحجم ووزن حبيباته، وقوه الريح وعدد ساعات هبوبها، واستمراريه ذلك.
والمواد المنقوله بواسطه الرياح اما ان تحمل معلقه بين طبقات الهواء اذا كانت خفيفه، واما ان تدفعها الرياح علي سطح الارض، وهي في انتقالها هذا يسبق خفيفها ثقيلها في الانتقال، وبذلك تصنف مكوناتها، وقد تتراكم في مجموعات علي اساس من كتلها واحجامها، وكثافتها، وربما تركيبها المعدني.
وفي مقدور الرياح السطحيه ان تحمل الغبار مرتفعه به ضد الجاذبيه الارضيه لعده كيلو مترات فوق كل من اليابسه والمساحات الشاسعه من الماء، خاصه في المناطق الجافه الدافئه حيث يسخن الهواء بملامسته سطح الارض فيتمدد، وتقل كثافته حتي يرتفع الي اعلي علي هيئه اعاصير (Whirls)، ودوارات (Eddies) حاملا معه دقائق الغبار في اعمده طويله تتحرك عبر السهول والوديان.
وكثيرا ما تشاهد عواصف الغبار وهي تظلم السماء في وضح النهار; وتحيل الهواء الي هبوب خانق، وتحمل كميات هائله من هذا الغبار الي مسافات بعيده، ويشاهد ذلك علي وجه الخصوص في المساحات الصحراويه الجافه مثل الصحراء الكبري التي كثيرا ما تحمل عواصفها الغبار الاحمر لتسقطه علي بعد مئات من الكيلو مترات شمالا في كل من جزر الكناري، وايطاليا والمانيا، والمساحات المائيه التي مرت بها، والبواخر العابره فيها.
وتتسبب عمليات تذريه الرياح للتربه في خفض مستوي سطح الارض بصفه عامه لعده عشرات من الملليمترات في كل قرن من الزمان، وفي بعض الحالات الاستثنائيه يمكن ان يزال الي عمق متر كامل من التربه الناعمه من مثل التربه الصلصاليه والغرينيه الجافه في سنوات قليله، وقد يتسبب ذلك في تكوين حفر ارضيه يتراوح عمقها بين50،30 مترا، وتصل مساحتها الي عده كيلو مترات مربعه.
ومن نتائج تعريه الرياح للصخور وتذريه ما تفكك منها تكون السهول الواسعه، والاحواض المنخفضه خاصه في المناطق المكونه من صخور رخوه كالصلصال والطفال; التي تستمر فيها عمليات التعريه حتي تنتهي عند مستوي الماء تحت سطح الارض فيتوقف عمل الرياح لانها لا تقوي علي حمل الفتات الصخري الرطب.
وقد هبت عاصفه هوائيه لمده اربع وعشرين ساعه علي احد الاوديه في كاليفورنيا (SanJoaguinValley) وذلك في1977/12/12 م كانت سرعتها في حدود300 كيلو متر في الساعه، ويقدر ما حملته من غبار التربه العلويه في مساحه قدرها الفان من الكيلو مترات المربعه بنحو مائه مليون طن.
والدقائق الخفيفه من الغريق والصلصال( اقل من0.15 من الملليمتر) وهباءات الرماد الناتج عن الحرائق، وبعض حبوب اللقاح الدقيقه، وفتات دقيق جدا من بعض حطام النباتات، وبلورات متناهيه الصغر في الحجم من املاح البحر والمحيطات حملتها الابخره المتصاعده منها، ودقائق من الرماد البركاني، وبعض الابخره والمواد المتطايره، وحتي بعض البكتيريا الدقيقه، وبعض المركبات الكيميائيه المتعدده، كل ذلك اذا انتشر في جسم السحابه شكل نوي للتكثف يعين بخار الماء الموجود في السحابه علي مزيد من التكثف فوق قطيرات الماء او بللورات الثلج المتكونه داخل السحابه، حتي تصل كتله قطرات الماء الي الحد الذي لا يقوي الهواء علي حملها فتسقط باراده الله( تعالي) حيث يشاء مطرا او بردا او ثلجا او خليطا من كل ذلك، ومن هنا كان دور الرياح في تلقيح السحاب بنوي التكثف المختلفه.
ومن سنن الله( تعالي) المتحكمه في حركات الرياح السطحيه الجاذبيه الارضيه، وقدر الاحتكاك بتضاريس سطح الارض، وتدرج معدلات الضغط الجوي وهي مرتبطه ارتباطا مباشرا بتوزيع درجات الحراره علي سطح الارض.
وتظل هذه العوامل سائده حتي ارتفاع65 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر حيث تبدا عوامل اخري في التحكم بحركه الرياح.
واعلي سرعه للرياح السطحيه تحدث عند حدود نطاق الرجع (TheStratopause) الذي يتراوح سمكه من7 16 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر.
(2) الرياح المتوسطه: وتمتد من فوق الرياح السطحيه( اي من فوق الحدود العليا لنطاق الرجع) الي مستوي35 كيلو مترا فوق سطح البحر وهنا تستمر سنن الله الحاكمه لحركه الرياح السطحيه، وقد تتدخل بعض العوامل الاخري واهمها خلخله الهواء.
(3) الرياح المرتفعه: وتمتد في المستوي من35 كم الي65 كم فوق مستوي سطح البحر، وتستمر سنن الله الحاكمه لحركه الرياح السطحيه مع تدخل عدد من العوامل الاخري واهمها قله الضغط، والجفاف الشديد.
اما فوق مستوي65 كيلو مترا من سطح البحر فتبدا سنن الهيه جديده في التحكم بحركه الرياح واهمها الكهربيه الجويه، والمغناطيسيه، وعمليات المد والجزر الهوائيين.
من هذا الاستعراض يتضح بجلاء ان تصريف الرياح بمشيئه الله تثير السحاب بتزويد الهواء بالرطوبه اللازمه، وان ارسال الرياح بنوي التكثف المختلفه يعين بخار الماء الذي بالسحاب علي التكثف كما يعين قطيرات الماء المتكثفه في السحاب علي مزيد من النمو حتي تصل الي الكتله التي تسمح لها بالنزول مطرا او ثلجا او بردا باذن الله، كما ان الرياح تدفع بهذه المزن الممطره باذن الله( تعالي) الي حيث يشاء، وهذه حقائق لم يدركها الانسان الا في اوائل القرن العشرين، وورودها في كتاب الله بهذه الدقه والوضوح والكمال العلمي مما يقطع بان مصدرها الرئيسي هو الله الخالق، ويجزم بان القران الكريم هو كلامه( سبحانه وتعالي)، كما يجزم بالنبوه والرساله لهذا النبي الخاتم الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) فلم يكن لاحد من الخلق ادني المام بدور الرياح في حمل دقائق الماده الي السحاب حتي تعين علي تكثف هذا البخار فينزل باراده الله مطرا في زمن تنزل الوحي ولا لقرون متطاوله من بعده فسبحان منزل القران الذي انزل فيه قوله الحق:
وارسلنا الرياح لواقح فانزلنا من السماء ماء فاسقيناكموه وما انتم له بخازنين (الحجر:22).
وذلك لان خزن الماء في الارض هو ايضا من ايات الله الكبري التي اعدها اعدادا ينطق بطلاقه القدره الالهيه وعظيم الحكمه الربانيه، وقد تعرضنا لذلك في مقال سابق، ولا اري ضروره لاعاده شرحه هنا مره اخري.
كذلك فقد كررنا مرارا انه لولا دوره الماء حول الارض لاسن هذا الماء وتعفن لان بلايين الكائنات الحيه تحيا وتموت فيه في كل لحظه، ولهذا يمن علينا ربنا( تبارك وتعالي) بقوله( فاسقيناكموه) فتبارك الذي انزل القران العظيم( انزله بعلمه) وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم الذي تلقاه والحمد لله رب العالمين.
إرسال تعليق