ألم. غلبت الروم. في أدني الأرض
وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين
هذه الايات القرانيه الكريمه جاءت في مطلع سوره الروم، وهي سوره مكيه يدور محورها الرئيسي حول قضيه العقيده، شانها في ذلك شان كل القران المكي.
ومن قضايا العقيده الاساسيه الايمان بوحدانيه الخالق( سبحانه وتعالي)، وبوحده الرساله، ووحده الخلق، والايمان بالاخره واهوالها، ومنها هول البعث، وهول الحساب، وهول الميزان، وهول الصراط، وحتميه الجزاء، وحتميه الخلود في الحياه القادمه اما في الجنه ابدا او في النار ابدا...!!
وقد ابتدات السوره الكريمه بالتنبو بحدث غيبي قبل وقوعه بعده سنوات الا وهو انتصار الروم علي الفرس بعد هزيمتهم امامهم قبل نزول هذه السوره المباركه بعده سنوات. وتزخر السوره بالامر بتسبيح الله، وتنزيهه وحمده، وبالاستشهاد بعدد كبير من الايات الكونيه الداله علي طلاقه قدرته وشمول علمه، وعدل قضائه...!!
وتنصح السوره النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) بان يقيم وجهه لدين الاسلام الحنيف، الذي لايرتضي ربنا ( تبارك وتعالي) من عباده دينا سواه، لانه دين الفطره التي فطر الله ( تعالي) الناس عليها، والتي لاتبديل لها، وان كان اكثر الناس لايعلمون ذلك، وتامر المسلمين بالانابه الي الله وتقواه، كما تامرهم باقام الصلاه، وبالحذر من الوقوع في دنس الشرك بالله، لان الذين اشركوا قد فرقوا دينهم، وكانوا شيعا عديده حسب اهوائهم، وكل حزب منهم فرح بما لديه...!!!
وتحدثت السوره الكريمه عن شيء من التقلب في طبائع النفس البشريه، والذي لاتستقيم معه الحياه السويه، مثل اللجوء الي الله تعالي في الشده، والاعراض عنه في الرخاء، والايمان به( تعالي) في لحظات الضيق، والشرك او الكفر به( تعالي) وبما انزل في لحظات السعه والرحمه، وتضرب السوره مثلا للناس من حياتهم علي سخافه فكره الشرك بالله اذا ناقشها العقل بشيء من الموضوعيه والحيده.
ومن مكارم الاخلاق التي تدعو اليها السوره الكريمه: الامر باخراج الزكاه وايتاء ذي القربي، والمساكين وابناء السبيل، والنهي عن اكل الربا، علي ان ينطلق ذلك كله من الايمان بان الله( تعالي) هو الخالق، الرزاق، المحيي، المميت، وتربط السوره بين ظهور الفساد في البر والبحر وبين اعمال الناس وما كسبت ايديهم، وتامر بالسير في الارض لاستخلاص العبر من سير الاولين،ومصائر الظالمين.
وتوكد السوره مره ثانيه لخاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) ضروره الاستقامه علي الدين القيم من قبل ان تاتي الاخره فيصدع بها كل الخلائق ثم يجزي كل بعمله.
ومن الايات الكونيه التي استشهدت بها سوره الروم علي طلاقه القدره الالهيه: خلق السماوات والارض، وخلق الاحياء، وخلق الانسان، كل ذلك في زوجيه تشهد للخالق وحده( سبحانه) بالوحدانيه المطلقه فوق جميع خلقه، ومنها اختلاف السنه الناس والوانهم، واعطاء الانسان الاستطاعه علي النوم بالليل او في النهار، وعلي ابتغاء فضل الله، ومن اياته الرعد والبرق، وانزال المطر، واحياء الارض بعد موتها، وقيام السماوات والارض بامره، وخضوع كل من فيها او عليها بامره، وبعث الموتي بامره، وانه هو الذي يبدا الخلق ثم يعيده، وله المثل الاعلي في السماوات والارض.
ومن اياته ارسال الرياح برحمه منه وفضل، وجري الفلك بامره، واثاره السحاب، وما يستتبعه من احداث بامره، ومرور كل حي بمراحل من الضعف، ثم القوه، ثم الضعف والوفاه، ومن اياته انه يحيي الموتي وانه علي كل شيء قدير...!!
وتذكر السوره خاتم الانبياء والمرسلين ( صلي الله عليه وسلم) بشيء من قصص من سبقه من الانبياء والمرسلين، وما اصاب اقوامهم من انتقام من الظالمين، ونصر للمومنين، كما تذكره( صلوات الله وسلامه عليه) بان ما عليه الا البلاغ.
وتختتم السوره الكريمه مره اخري بالحديث عن البعث واهواله، وعن مصير اهل الكفر والشرك والضلال في هذا اليوم العصيب، ومصير اهل الايمان والتقوي، وتكرر الاشاره الي شيء من طبائع النفس البشريه، وقد ضربت لها ايات القران الكريم من كل مثل، ولكن الذين كفروا لايومنون، فالله ( تعالي) قد طبع علي قلوب الذين لايعلمون.
وتنتهي السوره بتثبيت خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بوصيه من الله( تعالي) له بالصبر علي استخفاف الكفار والمشركين بدعوته، والاطمئنان بان وعد الله حق، وهو واقع لا محاله...!!
والايات الكونيه الوارده في سوره الروم تحتاج الي مجلدات لتفصيل دلالاتها، ولاظهار جوانب الاعجاز العلمي فيها، ولكني ساقتصر في هذا المقال علي الاشاره القرانيه الي الموقع الذي هزمت فيه جيوش الروم علي ايدي جيوش الفرس بالتعبير: ادني الارض، وقبل الدخول في ذلك لابد من عرض الدلاله اللغويه لهذا التعبير ولاقوال المفسرين فيه.
ادني الارض في اللغه العربيه
يقال في اللغه:( دنا)( يدنو)( دنوا) بمعني قرب بالذات او بالحكم، ويستعمل في المكان، والزمان، والمنزله، كما يعدي فيقال( ادني)( يدني)( ادناءه)، ويقال:( دانيت) او( ادنيت) بين الامرين اي قاربت بينهما، حتي صارت بينهما( دناوه) اي: قرب او قرابه.. و(الدني) القريب، و(الدنئ) بمعني الدون، الخسيس، وقد( دنا)( يدنا)، وفيهما( دناءه)، ويقال:( دنو) بمعني انحط، و(الدنيئه) هي النقيصه.
قال( تعالي):.... ومن النخل من طلعها قنوان دانيه...[ الانعام:99].
وقال( سبحانه): ثم دنا فتدلي. فكان قاب قوسين او ادني. [ النجم:9،8].
وفي الحديث الشريف: اذا اكلتم فادنوا اي كلوا مما يليكم. ويعبر ب( الادني) تاره عن الاقرب فيقابل بالابعد( او الاقصي) من مثل قوله( تعالي): اذ انتم بالعدوه الدنيا وهم بالعدوه القصوي....[ الانفال:42].
وتاره ثانيه يعبر بها عن الاخفض( او الاحقر) فيقابل بالاعلي ( او الاعز) وذلك من مثل قوله( تعالي):
..... يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك ادني ان يعرفن فلا يوذين....( الاحزاب:59).
وتاره ثالثه تاتي بمعني الاقل في مقابل الاكثر، من مثل قوله ( تعالي):.... ولا ادني من ذلك ولا اكثر الا هو معهم...[ المجادله:7] وتاره رابعه يعبر بها عن الارذل فيقابل بالذي هو خير، وذلك من مثل قوله ( تعالي): .... قال اتستبدلون الذي هو ادني بالذي هو خير...( البقره:61)
وتاره خامسه يعبر بها عن الاولي( الدنيا) في مقابله الاخره وذلك من مثل قوله( تعالي):
.... منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخره....[ ال عمران:152]
وسميت( الدنيا) بهذا الاسم لدنوها، والجمع( الدنا)، واصله الدنو فحذفت الواو لاجتماع الساكنين، والنسبه اليها( دنياي)، وقيل( دنيوي) ودني، ويقال:( تدني) فلان اي( دنا) قليلا قليلا، و(تدني) المستوي بمعني هبط، و(تدانوا) اي( دنا) بعضهم من بعض.
شروح المفسرين
في تفسير قوله تعالي: الم. غلبت الروم. في ادني الارض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين. لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المومنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ( الروم:1 5).
ذكر بن كثير( يرحمه الله) قول بن عباس( رضي الله عنهما) حيث قال: كان المشركون يحبون ان تظهر فارس علي الروم لانهم اصحاب اوثان، وكان المسلمون يحبون ان تظهر الروم علي فارس، لانهم كانوا من اهل الكتاب، فذكر ذلك لابي بكر( رضي الله عنه)، فذكره ابو بكر لرسول الله( صلي الله عليه وسلم)، فقال رسول الله( صلي الله عليه وسلم):[ اما انهم سيغلبون]، فذكره ابو بكر للمشركين، فقالوا: اجعل بيننا وبينك اجلا، فان ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وان ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل اجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك ابو بكر لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) فقال:[ الا جعلتها الي دون العشر؟]، ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله تعالي:[ الم. غلبت الروم. في ادني الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون].
واضاف بن كثير عده روايات اخري للحديث عن كل من مسروق، وابن مسعود، وعكرمه( رضي الله عنهم اجمعين) في المعني نفسه، وزاد قوله:... واما الروم فهم من سلاله العيص بن اسحاق بن ابراهيم، ويقال لهم بنو الاصفر، وكانوا علي دين اليونان; واليونان من سلاله يافث بن نوح ابناء عم الترك، وكانوا يعبدون الكواكب السياره، وهم الذين اسسوا دمشق وبنوا معبدها، فكان الروم علي دينهم الي بعد مبعث المسيح( عليه السلام) بنحو من ثلاثمائه سنه، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيره يقال له( قيصر); فكان اول من دخل في دين النصاري من الروم ( قسطنطين); وامه مريم الهيلانيه من ارض حران وكانت قد تنصرت قبله فدعته الي دينها... واستمروا علي النصرانيه، كلما هلك قيصر خلفه اخر بعده حتي كان اخرهم( هرقل)... فناواه كسري ملك الفرس، وكانت مملكته اوسع من مملكه قيصر، وكانوا مجوسا يعبدون النار، فتقدم عن عكرمه ( رضي الله عنه) انه قال: بعث اليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور ان كسري غزاه بنفسه في بلاده فقهره، وكسره وقصره حتي لم يبق معه سوي مدينه قسطنطينيه فحاصره بها مده طويله حتي ضاقت عليه، ولم يقدر كسري علي فتح البلده، ولا امكنه ذلك لحصانتها، لان نصفها من ناحيه البر، ونصفها الاخر من ناحيه البحر، فكانت تاتيهم الميره والمدد من هناك، ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع، فان البضع في كلام العرب ما بين الثلاث الي التسع.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( يرحمهما الله) كلاما موجزا في المعني نفسه، واضافا تعليقا علي التعبير القراني( في ادني الارض) ان المقصود به:[ اقرب ارض الروم الي فارس بالجزيره، التقي فيها الجيشان، والبادي بالغزو( هم) الفرس...].
وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها رحمه واسعه) ما نصه:
ثم جاءت النبوءه الصادقه الخاصه بغلبه الروم في بضع سنين.... واضاف روايه عبدالله بن مسعود( رضي الله عنه) موكدا ان هذا الحادث قد وردت فيه روايات كثيره، تتفق كلها في المعني والدلاله، وتختلف في الالفاظ وطرائق التعبير.
وجمع الكاتب( رحمه الله) من هذه الايات القرانيه الكريمه عددا من الايحاءات منها: الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان امام دعوه التوحيد والايمان; ومنها الثقه المطلقه في وعد الله كما تبدو في قوله ابي بكر( رضي الله عنه) في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبون من قول صاحبه، فما يزيد علي ان يقول: صدق، ويراهنونه فيراهن وهو واثق، ثم يتحقق وعد الله، في الاجل الذي حدده: في بضع سنين...
والايحاء الثالث وهو المسارعه برد الامر كله لله، في هذا الحادث وفي سواه، وتقرير هذه الحقيقه الكليه، لتكون ميزان الموقف، وميزان كل موقف، فالنصر والهزيمه، وظهور الدول ودثورها، وقوتها وضعفها، شانه شان سائر ما يقع في هذا الكون من احداث ومن احوال، مرده كله الي الله...
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران ما نصه: احتربت الفرس والروم فيما بين اذرعات وبصري من ارض الروم يومئذ، وهما اقرب اراضيها بالنسبه الي مكه، وكان ذلك قبل الهجره بخمس سنين، وقيل بست. فظهر الفرس علي الروم، فلما بلغ الخبر مكه شق علي المومنين، لان الفرس مجوس لا يدينون بكتاب، والروم اهل كتاب; وفرح المشركون وقالوا: انتم والنصاري اهل كتاب، ونحن والفرس اميون، وقد ظهر اخواننا علي اخوانكم، ولنظهرن نحن عليكم، فنزلت الايه وفيها: ان الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين. والبضع: ما بين الثلاث الي التسع و(غلبهم) كونهم مغلوبين.
وجاء في المنتخب في تفسير القران الكريم ما نصه: غلبت فارس الروم في اقرب الارض من العرب، وهي اطراف الشام، وهم بعد انهزامهم سيغلبون الفرس، قبل ان تمضي تسع سنوات.. وكان المشركون قد فرحوا بانتصار فارس، وقالوا للمسلمين: سنغلبكم كما غلبت فارس الروم التي هي من اهل الكتاب.. وقد حقق الله وعده فانتصر الروم علي فارس في الاجل الذي سماه، فكان ذلك ايه بينه علي صدق محمد( صلي الله عليه وسلم) في دعواه وصحه ما جاء به....
وجاء في الهامش التعليق التالي: في هذه الايات الشريفه اشاره الي حدثين: كان اولهما قد وقع بالفعل، واما الثاني فلم يكن قد وقع بعد، وهو اخبار عن الغيب،( وحدد لوقوعه بضع سنين فيما بين الثلاث والتسع).
وتفصيل الحدث الاول ان الفرس والبيزنطيين قد اشتبكوا في معركه في بلاد الشام علي ايام خسرو ابرويز او خسرو الثاني عاهل الفرس المعروف عند العرب بكسري. وهيراكليوس الصغير الامبراطور الروماني المعروف عند العرب بهرقل; ففي عام614 م استولي الفرس علي انطاكيه اكبر المدن في الاقاليم الشرقيه للامبراطوريه الرومانيه، ثم علي دمشق، وحاصروا مدينه بيت المقدس الي ان سقطت في ايديهم واحرقوها ونهبوا السكان واخذوا يذبحونهم....
وتفصيل الحدث الثاني ان هرقل قيصر الروم الذي مني جيشه بالهزيمه لم يفقد الامل في النصر، ولهذا اخذ يعد نفسه لمعركه تمحو عار الهزيمه، حتي اذا كان عام622 الميلادي( اي العام الهجري الاول) ارغم الفرس علي خوض معركه علي ارض ارمينيا وكان النصر حليف الروم، وهذا النصر كان فاتحه انتصارات الروم علي الفرس... فتحققت بشري القران....
وثمه حدث ثالث يفهم من سياق هذه الايات الشريفه كان مبعث فرح المسلمين وهو انتصارهم علي مشركي قريش في غزوه بدر التي وقعت في يوم الجمعه17 رمضان من العام الثاني الهجري( اي سنه624 م).
وجاء في صفوه التفاسير ما نصه:...( غلبت الروم في ادني الارض) اي هزم جيش الروم في اقرب ارضهم الي فارس( وهم من بعد غلبهم سيغلبون) اي وهم من بعد انهزامهم وغلبه فارس لهم سيغلبون الفرس، وينتصرون عليهم( في بضع سنين) اي في فتره لا تتجاوز بضعه اعوام; والبضع ما بين الثلاث والتسع....
واشار صاحب صفوه التفاسير( جزاه الله خيرا) الي اقوال المفسرين السابقين وعلق علي قوله ( تعالي):[ وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين] ما نصه: وقد التقي الجيشان في السنه السابعه من الحرب، وغلبت الروم فارس وهزمتهم، وفرح المسلمون بذلك; قال ابو السعود: وهذه الايات من البينات الباهره، الشاهده بصحه النبوه، وكون القران من عند الله عز وجل حيث اخبر عن الغيب الذي لا يعلمه الا الله العليم الخبير، ووقع كما اخبر، وقال البيضاوي: والايه من دلائل النبوه لانها اخبار عن الغيب....
واضاف صاحب صفوه التفاسير في شرح قول الحق( تبارك وتعالي):[ ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله] ما نصه: وقد صادف ذلك اليوم يوم غزوه بدر; قال ابن عباس: كان يوم بدر هزيمه عبده الاوثان، وعبده النيران....
ويوم بدر وقع في السنه الثانيه من الهجره ( الموافق سنه624 م)، وعلي ذلك فان هزيمه الروم علي ايدي الفرس لابد وانها كانت قد وقعت في حدود سنه614 م الي615 م.
وجاء في اطلس تاريخ الاسلام( علي واضعه رحمه الله) ما نصه:... وعندما تولي هرقل عرش الروم سنه610 م( وهي سنه البعثه المحمديه) كان الفرس قد اجتاحوا بلاد الشام ومصر وهزموا البيزنطيين سنه613 م عند انطاكيه، واستولوا علي فلسطين والقدس سنه614 م، وغزوا مصر ودخلوا الاسكندريه سنه618 م او619 م، وبعد ان اقام هرقل دولته بدا قتال الفرس سنه622 م، وفي سنه627 م انزل بهم هزيمه قاصمه قرب نينوي، واسترد منهم اراضي الدوله البيزنطيه في ارمينيا والشام وفلسطين ومصر، وفي سنه630 م استعاد بيت المقدس.
ومن استقراء كل هذه التواريخ السابقه يتضح ان هزيمه الروم الحقيقيه علي ايدي جيوش الفرس كانت في حدود سنه614 م الي615 م، وان استعادتهم النصر علي الفرس كانت في حدود سنه624 م، واستمر تقدم الروم علي ارض الفرس حتي تم لهم استعاده بيت المقدس.
وواضح من شروح المفسرين ان المقصود بالتعبير القراني في ادني الارض الذي يصف ارض المعركه التي تمت فيها هزيمه الروم امام جحافل جيش الفرس هو اقرب الارض الي مكه المكرمه او الي الجزيره العربيه او الي ارض الفرس.. ولكن الدراسات الحديثه توكد ان منطقه حوض البحرالميت، بالاضافه الي كونها اقرب الاراضي التي كان الروم يحتلونها الي الجزيره العربيه هي ايضا اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا، حيث يصل منسوب سطح الارض فيها الي حوالي الاربعمائه متر تحت متوسط مستوي سطح البحر، وان هذه المنطقه كانت من مناطق الصراع بين امبراطوريتي الفرس والروم، وان المعركه الحاسمه التي اظهرت جيوش الفرس علي جيوش امبراطوريه روما الشرقيه( الامبراطوريه البيزنطيه) لابد انها وقعت في حوض البحرالميت، وان الوصف ب ادني الارض هنا كما يعني اقربها للجزيره العربيه، يعني ايضا انها اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا، وهذه الاشاره القرانيه العابره تعتبر من السبق العلمي في كتاب الله، لان احدا لم يكن يعلم هذه الحقيقه في زمن الوحي بالقران الكريم، ولا لقرون متطاوله من بعده.
ادني الارض في العلوم الحديثه
ثبت علميا بقياسات عديده ان اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا هو غور البحرالميت، ويقع البحرالميت في اكثر اجزاء الغورانخفاضا، حيث يصل مستوي منسوب سطحه الي حوالي اربعمائه متر تحت مستوي سطح البحر، ويصل منسوب قاعه في اعمق اجزائه الي قرابه الثمانمائه متر تحت مستوي سطح البحر، وهو بحيره داخليه بمعني ان قاعها يعتبر في الحقيقهجزءا من اليابسه.
وغور البحرالميت هو جزء من خسف ارضي عظيم يمتد من منطقه البحيرات في شرقي افريقيا الي بحيره طبريا، فالحدود الجنوبيه لتركيا، مرورا بالبحرالاحمر، وخليج العقبه، ويرتبط بالخسف العميق في قاع كل من المحيط الهندي، وبحر العرب وخليج عدن، ويبلغ طول اغوار وادي عربه البحرالميت الاردن حوالي الستمائه كيلومتر، ممتده من خليج العقبه في الجنوب الي بحيره طبريا في الشمال، ويتراوح عرضها بين العشره والعشرين كيلومترا.
ويعتبر منسوب سطح الارض فيها اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا حيث يصل منسوب سطح الماء في البحرالميت الي402 مترا تحت المستوي المتوسط لمنسوب المياه في البحرين المجاورين: الاحمر والابيض المتوسط، وهو اخفض منسوب ارضي علي سطح اليابسه كما يتضح من الارقام التاليه:
منسوب سطح الارض في وادي عربه=355 400 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب اعمق نقاط قاع البحرالميت=794 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب سطح الماء في البحرالميت=402 تحت مستوي سطح البحر.
مستوي سطح الارض في غور الاردن=212 400 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب سطح الماء في بحيره طبريا=209 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب قاع بحيره طبريا=252 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب سطح الارض في قاع منخفض القطاره في شمال صحراء مصرالغربيه=133 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب سطح الارض في قاع وادي الموت/ كاليفورنيا=86 م تحت مستوي سطح البحر.
منسوب سطح الارض في قاع منخفض الفيوم/مصر=45 م تحت مستوي سطح البحر.
ويتراوح عمق الماء في الحوض الجنوبي من البحرالميت بين السته والعشره امتار، وهو بذلك في طريقه الي الجفاف، ويعتقد انه كان جافا الي عهد غير بعيد من تاريخه، وكان عامرا بالسكان، وان منطقه الاغوار كلها من وادي عربه في الجنوب الي بحيره طبريا في الشمال كانت كذلك عامره بالسكان منذ القدم حيث عرف البحرالميت في الكتابات التاريخيه القديمه، ووصف باسماء عديده من مثل بحرسدوم بحيره لوط بحيره زغر، البحر النتن، بحر عربه، بحر الاسفلت والبحرالميت، وذلك لان المنطقه اشتهرت بخصوبه تربتها، ووفره مياهها فعمرتها القبائل العربيه منذ القدم، واندفعت اليها من كل من العراق والجزيره العربيه وبلاد الشام ومنهم قوم لوط( عليه السلام) الذين عمروا خمس مدن في ارض الحوض الجنوبي من البحرالميت هي: سدوم، وعموره، وادمه، وصوبييم، وزغر، وقد ازدهرت فيها الحياه الي اواخر القرن العشرين قبل الميلاد ودمرت بالكامل في عقاب الهي انزل بها وجاء خبر عقابها في القران الكريم بقول الحق( تبارك وتعالي):
فلما جاء امرنا جعلنا عاليها سافلها وامطرنا عليها حجاره من سجيل منضود (هود:82)
والارض في حوض البحرالميت بصفه عامه وفي الجزء الجنوبي منه بصفه خاصه والتي تعرف باسم الارض المقلوبه تتميز بالحراره الشديده، وبتفجر كل من العيون المائيه، والابخره الكبريتيه الحاره فيها، وبتناثر كتل الاسفلت التي كثيرا ما كانت تطفو علي سطح مياه البحرالميت الي عهد غير بعيد.
وقري قوم لوط التي كانت تشغل ارض الحوض الجنوبي من البحرالميت، والتي دمرت بالكامل بامر من ربنا( تبارك وتعالي) لا علاقه لها بالحركات الارضيه التي شكلت تلك الاغوار من قبل حوالي25 مليون سنه مضت، ولكن بعد تدميرها بالعقاب الالهي دخلت المنطقه برحمه من الله ( تعالي) في دوره مطيره غسلت مياهها ذنوب الاثمين من قوم لوط، وغمرت منطقه قراهم لتحولها الي الحوض الجنوبي من البحرالميت، والذي يتجه اليوم الي الجفاف مره اخري ليصير ارضا يابسه.
وخلاصه القول ان منطقه اغوار وادي عربه البحرالميت الاردن تحوي اخفض اجزاء اليابسه علي الاطلاق، والمنطقه كانت محتله من قبل الروم البيزنطيين في عصر البعثه النبويه الخاتمه، وكانت هذه الامبراطوريه الرومانيه يقابلها ويحدها من الشرق الامبراطوريه الفارسيه الساسانيه، وكان الصراع بين هاتين الامبراطوريتين الكبيرتين في هذا الزمن علي اشده، ولابد ان كثيرا من معاركهما الحاسمه قد وقعت في ارض الاغوار، وهي اخفض اجزاء اليابسه علي الاطلاق، ووصف القران الكريم لارض تلك المعركه الفاصله التي تغلب فيها الفرس علي الروم في اول الامر ب ادني الارض وصف معجز للغايه لان احدا من الناس لم يكن يدرك تلك الحقيقه في زمن الوحي، ولا لقرون متطاوله من بعده، وورودها بهذا الوضوح في مطلع سوره الروم يضيف بعدا اخر الي الاعجاز التنبوي في الايات الاربع التي استهلت بها تلك السوره المباركه الا وهو الاعجاز العلمي فبالاضافه الي ما جاء بتلك الايات من اعجاز تنبوي شمل الاخبار بالغيب، وحدد لوقوعه بضع سنين، فوقع كما وصفته وكما حددت له زمنه تلك الايات فكانت من دلائل النبوه، فان وصف ارض المعركه بالتعبير القراني ادني الارض يضيف اعجازا علميا جديدا، يوكد ان القران الكريم هو كلام الله الخالق وان النبي الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السماوات والارض.
وكما كانت هذه الايات الكريمه من دلائل النبوه في زمن الوحي لاخبارها بالغيب فيتحقق، فهي لا تزال من دلائل النبوه في زماننا بالتاكيد علي ان المعركه الفاصله قد تمت في اخفض اجزاء اليابسه علي الاطلاق، وهي اغوار البحرالميت وما حولها من اغوار وياتي العلم التجريبي ليوكد تلك الحقيقه في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين.
وعلي كتاب التاريخ الذين تارجحوا في وضع المعركه الفاصله في هزيمه الروم علي ارض القسطنطينيه، او علي الارض بين مدينتي اذرعات وبصري من ارض الشام، او علي ارض انطاكيه، او علي ارض دمشق، او ارض بيت المقدس، او ارض مصر( الاسكندريه) ان يعيدوا النظر في استنتاجاتهم، لان القران الكريم يقرر ان هزيمه الروم علي ايدي الفرس كانت علي الارض الواقعه بين شرقي الاردن وفلسطين وهي اغوار وادي عربه البحرالميت الاردن التي اثبت العلم انها اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا، والتي ينطبق عليها الوصف القراني بادني الارض انطباقا تاما ودقيقا.
وعلي الذين قالوا ان معني ادني الارض هو اقرب الارض من بلاد فارس، او من بلاد العرب، او هي اطراف بلاد الشام، او بلاد الشام، او انطاكيه، او دمشق، اوبيت المقدس او غيرها ان يعيدوا النظر في ذلك، لان حدود الامبراطوريتين كانت متلاحمه مع بعضهما بعضا من جهه ومع بلاد العرب من جهه اخري، وعليه فلايعقل ان يكون المقصود بتعبير ادني الارض في هذه الايات الكريمه هو القرب من بلاد فارس او بلاد العرب، فقط، وان كانت ارض الاغوار هي اقرب الارض الي بلاد العرب، بل هي في الحقيقه جزء من ارض شبه الجزيره العربيه. فسبحان الذي انزل هذا التعبير المعجز ادني الارض ليحدد ارض المعركه ثم ليثبت العلم التجريبي بعد اكثر من اثني عشر قرنا ان الاغوار الفاصله بين ارض فلسطين المباركه والاردن هي اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا ومن هنا كانت جديره بالوصف القراني ادني الارض، وجديره بان تكون ارض المعركه التي هزم فيها الروم، وذلك لقول الحق( عز من قائل):
الم. غلبت الروم. في ادني الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المومنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.( الروم:1 5).
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 28 يناير 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"
إرسال تعليق