اخر الاخبار

breaking/مقالات الدكتور/9
مقالات الدكتور

4:59 م

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي

جاءت هذه الايه الكريمه في مقدمات سوره الزمر، والتي سميت بهذا الاسم لحديثها عن زمر المتقين، السعداء، المكرمين من اهل الجنه، وزمر العصاه، الاشقياء المهانين من اهل النار، وحال كل منهم في يوم الحساب‏.‏
و سوره الزمر مكيه شانها شان كل السور المكيه التي يدور محورها الرئيسي حول قضيه العقيده ولذلك فهي تركز علي عقيده التوحيد الخالص لله، بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏.‏

واستهلت السوره بالحديث عن القران الكريم الذي انزله ربنا ‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بالحق علي خاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ هدايه للناس كافه، وانذارا من رب العالمين، وجعله معجزه خالده الي يوم الدين، وملاه بالانوار الالهيه، والاشراقات النورانيه، التي منها الامر الي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والي الناس كافه‏ (‏ بالتبعيه لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏)‏ باخلاص الدين لله، وتنزيهه‏(‏ جل في علاه‏)‏ عن الشبيه والشريك والولد‏...!!!‏
وذكرت السوره عددا هائلا من الادله الماديه الملموسه التي تشهد للخالق سبحانه وتعالي بطلاقه القدره، وببديع الصنعه، وباحكام الخلق، وبالتالي تشهد له‏(‏ سبحانه‏)‏ بالالوهيه، والربوبيه، والوحدانيه، والتنزيه عن كل وصف لا يليق بجلاله، ومن هذه الادله الماديه‏:‏ خلق السماوات والارض بالحق، وخلق كل شيء حسب مايشاء‏(‏ سبحانه‏),‏ تكوير الارض وتبادل الليل والنهار عليها، وتسخير كل من الشمس والقمر ‏(‏ وتسخير كل اجرام السماء‏),‏ خلق البشر كلهم من نفس واحده، وخلق زوجها منها‏ (‏ وكذلك الزوجيه في كل خلق‏),‏ انزال ثمانيه ازواج من الانعام، مراحل الجنين التي يمر بها الانسان وخلقه في ظلمات ثلاث، انزال الماء من السماء وخزن بعضه في صخور الارض، اخراج الزرع ودوره حياته، حتميه الموت علي كل مخلوق، تكافو النوم مع الوفاه، وقبض الارض، وطي السماوات يوم القيامه‏...!!!‏

وتحدثت السوره الكريمه كذلك عن الايمان الذي يرتضيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده، والكفر الذي لا يرضاه، وعن علم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بكل مافي الصدور، وقدرته‏(‏ جل جلاله‏)‏ علي محاسبه كل مخلوق بعمله، وتحدثت السوره عن طبائع النفس البشريه في السراء والضراء، وعن الفروق بين كل من الايمان والكفر، والكافر والمومن في مواقفهما في الدنيا والاخره، وبين الاغراق في المعاصي والاخلاص في العباده، وبين كل من التوحيد والشرك، وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وعن العديد من مشاهد القيامه واهوالها‏...!!!‏
كما تحدثت السوره الكريمه عن نفختي الصعق والبعث، ومايعقبهما من احداث مروعه، وعن يوم الحشر حين يساق المتقون الي الجنه زمرا، ويساق المجرمون الي جهنم زمرا كذلك، ولكن شتان بين سوق التكريم، وسوق الاهانه والاذلال والتجريم، ويتم ذلك كله في حضره الانبياء والشهداء، والملائكه حافين من حول العرش، والوجود كله خاضع لربه، متجه اليه بالحمد والثناء، راج رحمته، مشفق من عذابه، راض بحكمه، حامد لقضائه‏...!!!‏

ومن الادله الماديه المطروحه للاستدلال علي طلاقه القدره الالهيه علي الخلق، وبالتالي علي الشهاده له‏(‏ سبحانه‏)‏ بالالوهيه والربوبيه قوله‏(‏ تعالي‏):‏
خلق السماوات والارض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمي الا هو العزيز الغفار‏.(‏ الزمر‏:5)‏
وهي ايه جامعه، تحتاج في شرحها الي مجلدات، ولذا فسوف اقتصر هنا علي الاشاره الي كرويه الارض والي دورانها من قبل الف واربعمائه سنه، في زمن ساد فيه الاعتقاد بالاستواء التام للارض بلا ادني انحناء، وبثباتها، وتمت الاشاره الي تلك الحقيقه الارضيه باسلوب لا يفزع العقليه البدويه في زمن تنزل الوحي، فجاء التكوير صفه لكل من الليل والنهار، وكلاهما من الفترات الزمنيه التي تعتري الارض، فاذا تكورا كان في ذلك اشاره ضمنيه رقيقه الي كرويه الارض، واذا تكور احدهما علي الاخر كان في ذلك اشاره الي تبادلهما، وهي اشاره ضمنيه رائعه الي دوران الارض حول محورها، دون ان تثير بلبله في زمن لم تكن للمجتمعات الانسانيه بصفه عامه والمجتمعات في جزيره العرب بصفه خاصه اي حظ من الثقافه العلميه، وسوف نفصل ذلك في السطور القادمه ان شاء الله‏ (‏ تعالي‏)‏ بعد شرح دلاله الفعل ‏(‏ كور‏)‏ في اللغه العربيه، واستعراض شروح المفسرين لدلالات تلك الايه الكريمه‏.‏

الدلاله اللغويه
يقال في اللغه العربيه‏:(‏ كار‏)‏ الشيء‏(‏ يكوره‏)(‏ كورا‏)‏ و‏(‏ كرورا‏),‏ و‏(‏ يكوره‏)(‏ تكويرا‏)‏ اي اداره، وضم بعضه الي بعض‏,(‏ ككور‏)‏ العمامه، او جعله كالكره، ويقال‏:(‏ طمنه فكوره‏)‏ اذا القاه مجتمعا، كما يقال‏(‏ اكتار‏)‏ الفرس اذا ادار ذنبه في عدوه، وقيل للابل الكثيره‏(‏ كور‏),‏ و‏(‏ كواره‏)‏ النحل معروفه، و‏(‏ الكور‏)‏ الرحل، وقيل لكل مصر‏(‏ كوره‏)‏ وهي البقعه التي يجتمع فيها قري ومحال عديده، و‏(‏ الكره‏)‏ التي تضرب بالصولجان، وتجمع علي‏(‏ كرين‏)‏ بضم الكاف وكسرها، كما تجمع علي كرات‏.‏
وجاء الفعل المضارع‏(‏ يكور‏)‏ في القران الكريم كله مرتين فقط في الايه الكريمه التي نحن بصددها، وجاء بصيغه المبني للمجهول مره واحده في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ اذا الشمس كورت ‏(‏ التكوير‏:1) اي جعلت كالكره بانسحاب السنه اللهب المندفعه منها الي الاف الكيلو مترات خارجها، الي داخلها كنايه عن بدء انطفاء جذوتها‏.‏

شروح المفسرين
في تفسير قوله تعالي‏:‏ خلق السماوات والارض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمي الا هو العزيز الغفار ‏(‏ الزمر‏:5)‏
ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ مانصه‏:‏ يخبر تعالي انه الخالق لما في السماوات والارض، ومابين ذلك من الاشياء، وبانه مالك الملك، المتصرف فيه، يقلب ليله ونهاره ‏(‏ يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل‏)‏ اي سخرهما يجريان متعاقبين، ولا يفترقان، كل منهما يطلب الاخر طلبا‏....‏

ويضيف‏:‏ وقوله عز وجل‏:‏ وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمي اي الي مده معلومه عند الله تعالي، ثم ينقضي يوم القيامه‏,(‏ الا هو العزيز الغفار‏)‏ اي مع عزته وعظمته وكبريائه، هو غفار لمن عصاه ثم تاب واناب اليه‏.‏
وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله‏)‏ مانصه‏:(‏ خلق السماوات والارض بالحق‏)‏ ولحكمه، لا عبثا باطلا، متعلق ب خلق‏.‏
‏(‏ يكور‏)‏ اي يدخل الليل علي النهار فيزيد‏(‏ ويكور النهار‏)‏ يدخله علي الليل فيزيد‏.‏
وجاء في الهامش التعليق التالي من احد المحققين‏:‏ قوله تعالي‏(‏ يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل‏)‏ ما ذكره المولف الجلال المحلي في معني التكوير هو معني الايلاج الوارد في مثل قوله تعالي‏(‏ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل‏),‏ وهذا تفسير غير موافق لمعني اللغه، لان التكوير والايلاج ليسا بمعني واحد، والا فما معني قوله تعالي‏(‏ اذا الشمس كورت‏)‏؟ قال‏:‏في القاموس‏:‏ التكوير في اللغه طرح الشيء بعضه علي بعض، ومنه كور العمامه، فيكون معني الايه‏:‏ ان الله تعالي سخر الليل والنهار يتعاقبان، يذهب احدهما فيعقبه الاخر الي يوم القيامه، وفي الايه اشاره واضحه الي ان الارض لاتخلو من ليل في مكان ونهار في اخر، علي مدار الساعه

وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمه واسعه‏)‏ ما نصه‏:‏
‏(‏خلق السماوات والارض‏)..‏ وانزل الكتاب بالحق‏..‏ فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب‏..‏ وكلاهما صادر من مصدر واحد، وكلاهما ايه علي وحده المبدع العزيز الحكيم‏, (‏ يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل‏)..‏ وهو تعبير عجيب يقسرالناظر فيه قسرا علي الالتفات الي ما كشف حديثا عن كرويه الارض، ومع انني في هذه الظلال حريص علي الا احمل القران علي النظريات التي يكشفها الانسان، لانها نظريات تخطيء وتصيب، وتثبت اليوم وتبطل غدا، والقران حق ثابت يحمل ايه صدقه في ذاته، ولا يستمدها من موافقه او مخالفه لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل‏!‏
مع هذا الحرص فان هذا التعبير يقسرني قسرا علي النظر في موضوع كرويه الارض، فهو يصور حقيقه ماديه ملحوظه علي وجه الارض، فالارض الكرويه تدور حول نفسها في مواجهه الشمس، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا، ولكن هذا الجزء لايثبت لان الارض تدور، وكلما تحركت بدا الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار، وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فتره يبدا النهار من الناحيه الاخري يتكور علي الليل، وهكذا في حركه دائبه‏(‏ يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل‏)..‏ واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعه الارض وحركتها، وكرويه الارض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا ادق من اي تفسير اخر‏..‏

وذكر صاحب صفوه البيان‏(‏ رحمه الله رحمه واسعه‏)‏ ما نصه‏:(‏ يكور الليل علي النهار‏)‏ تكوير الشيء ادارته، وضم بعضه الي بعض ككور العمامه، اي ان هذا يكر علي هذا، وهذا يكر علي هذا كرورا متتابعا كتتابع اكوار العمامه بعضها علي اثر بعض، الا ان اكوار العمامه مجتمعه، وفيما نحن فيه متعاوره‏..‏ وقيل المعني‏:‏ يزيد الليل علي النهار ويضمه اليه، بان يجعل بعض اجزاء الليل نهارا، فيطول النهار عن الليل، ويزيد النهار عن الليل ويضمه اليه بان يجعل بعض اجزاء النهار ليلا فيطول الليل عن النهار، وهو كقوله تعالي‏:(‏ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل‏)‏

وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ مانصه‏:‏ خلق السماوات والارض متلبسا بالحق والصواب علي ناموس ثابت، يلف الليل علي النهار ويلف النهار علي الليل علي صوره الكره، وذلل الشمس والقمر لارادته ومصلحه عباده، كل منهما يسير في فلكه الي وقت محدد عنده‏..‏ وهو يوم القيامه، الا هو دون غيره الغالب علي كل شيء، فلا يخرج شيء عن ارادته، الذي بلغ الغايه في الصفح عن المذنبين من عباده وجاء في الهامش هذا التعليق‏:‏ تشير هذه الايه الكريمه الي ان الارض كرويه تدور حول نفسها لان ماده التكوير معناها لف الشيء علي الشيء علي سبيل التتابع، ولو كانت الارض غير كرويه‏(‏ مسطحه مثلا‏)‏ لخيم الليل او طلع النهار علي جميع اجزائها دفعه واحده
وذكر صاحب صفوه التفاسير‏(‏ بارك الله في جهده‏):(‏ خلق السماوات والارض بالحق‏)‏ اي خلقهما علي اكمل الوجوه وابدع الصفات، بالحق الواضح والبرهان الساطع ‏(‏ يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل‏)‏ اي يغشي الليل علي النهار ويغشي النهار علي الليل، وكانه يلف عليه لف اللباس علي اللابس، قال القرطبي‏:‏ وتكوير الليل علي النهار تغشيته اياه حتي يذهب ضوءه ويغشي النهار علي الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتاده‏...‏

كرويه الارض في المعارف المكتسبه
كان اول من قال بكرويه الارض فلاسفه الحضاره العراقيه القديمه المعروفه باسم حضاره مابين النهرين في حدود سنه‏2000‏ ق‏.‏م وعنهم اخذ فلاسفه اليونان ومنهم فيثاغورس الذي نادي بها في منتصف القرن السادس ق‏.‏م موكدا ان الشكل الكروي هو اكثر الاشكال الهندسيه انتظاما لكمال انتظام جميع اجزاء الكره، بالنسبه الي مركزها، وعلي ذلك فان الارض وجميع اجرام السماء لابد وان تكون كرويه الشكل‏.‏
وبقي هذا الراي شائعا في الحضاره اليونانيه القديمه حتي القرن الرابع ق‏.‏م الي ان عارضه ارسطو فشاع بين الناس الاعتقاد باستواء الارض بلا ادني انحناء‏.‏
وفي عهد الخليفتين العباسيين الرشيد والمامون في القرن الهجري الثاني واوائل الثالث‏)‏ نادي عدد من علماء المسلمين ومنهم البيروني وابن سينا والكندي والرازي وغيرهم بكرويه الارض التي استدلوا عليها بعدد من الظواهر الطبيعيه التي منها مايلي‏:‏
‏(1)‏ استداره حد ظل الارض حين يقع علي سطح القمر في اوقات خسوفه
‏(2)‏ اختلاف ارتفاع النجم القطبي بتغير مكان الراصد له قربا من خط الاستواء او بعدا عنه‏.‏
‏(3)‏ تغير شكل قبه السماء من حيث مواقع النجوم وتوزيعها فيها باقتراب الراصد لها من احد القطبين‏.‏
‏(4)‏ رويه الافق دوما علي هيئه دائره تامه الاستداره واتساع دائرته بارتفاع الرائي علي سطح الارض‏.‏
‏(5)‏ ظهور قمم الجبال البعيده قبل سفوحها بتحرك الرائي اليها، واختفاء اسافل السفن قبل اعاليها في تحركها بعيدا عن الناظر اليها‏.‏
وقام علماء المسلمين في هذا العصر الذهبي بقياس محيط الارض بدقه فائقه، وبتقدير مسافه درجه الطول في صحراء العراق وعلي طول ساحل البحر الاحمر، وكانوا في ذلك سابقين للحضاره الغربيه بتسعه قرون علي الاقل، فقد اعلن الخليفه المامون لاول مره في تاريخ العلم ان الارض كرويه ولكنها ليست كامله الاستداره‏.‏
ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي ليتحدث عن نقص تكور الارض من منطلق اخر اذ ذكر ان ماده الارض خاضعه لقوتين متعارضتين‏:‏ قوه الجاذبيه التي تشد ماده الارض الي مركزها، والقوه الطارده المركزيه الناشئه عن دوران الارض حول محورها والتي تدفعها الي الخارج والقوه الاخيره تبلغ ذروتها عند خط استواء الارض فتودي الي انبعاجها قليلا بينما تنقص الي اقل قدر لها عند القطبين فيتفلطحان قليلا، ثم جاء تصوير الارض من الفضاء في اواخر القرن العشرين ليوكد كلا من كرويه الارض وانبعاجها قليلا عند خط استوائها

كرويه الارض في القران الكريم
من الحقائق الثابته عن الارض انها مكوره‏(‏ كره او شبه كره‏),‏ ولكن نظرا لضخامه ابعادها فان الانسان يراها مسطحه بغير ادني انحناء، وهكذا ساد الاعتقاد بين الناس بهذا التصور للارض الي زمن الوحي بالقران الكريم، والي قرون متطاوله من بعد ذلك بل بين العوام الي يومنا هذا، علي الرغم من وجود عدد من الملاحظات القديمه التي تشير الي كرويتها‏.‏
ولذلك فان القران الكريم يتحدث عن هذه الحقيقه بطريقه غير مباشره، وبصياغه ضمنيه لطيفه، ولكنها في نفس الوقت بالغه الدقه والشمول والاحكام، وجاء ذلك في عدد من ايات القران الكريم التي تتحدث عن تكور كل من الليل والنهار علي الاخر، وولوجه فيه وانسلاخه منه، وعن مد الارض وبسطها، ودحوها وطحوها، وكثره المشارق والمغارب فيها مع بقاء قمه عظمي ونهايتين لكل منهما، ومن تلك الايات قوله‏(‏ تعالي‏):‏
‏(‏ا‏)‏ خلق السماوات والارض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمي الا هو العزيز الغفار‏.‏ ‏(‏الزمر‏:‏ ايه‏5)‏

ومعني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل اي يغشي كل واحد منهما الاخر كانه يلفه عليه، وهو وصف واضح الدلاله علي كرويه الارض، وعلي دورانها حول محورها امام الشمس، وذلك لان كلا من الليل والنهار عباره عن فتره زمنيه تعتري نصف الارض في تبادل مستمر، ولو لم تكن الارض مكوره لما تكور اي منهما، ولو لم تكن الارض تدور حول محورها امام الشمس ما تبادل الليل والنهار وكلاهما ظرف زمان وليس جسما ماديا يمكن ان يكور، بل يتشكل بشكل نصف الارض الذي يعتريه، ولما كان القران الكريم يثبت ان الله تعالي يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وهما فترتان زمنيتان تعتريان الارض، فلابد للارض من ان تكون مكوره، ولابد لها من الدوران حول محورها امام الشمس‏.‏

ومن هنا كان التعبير القراني بتكوير كل من الليل والنهار فيه اعلام صادق عن كرويه الارض، وعن دورانها حول محورها امام الشمس، باسلوب رقيق لا يفزع العقليه السائده في ذلك الزمان التي لم تكن مستعده لقبول تلك الحقيقه، فضلا عن استيعابها، تلك الحقيقه التي اصبحت من البديهيات في زماننا وان بقي بعض الجهال علي انكارها الي يومنا هذا والي قيام الساعه، والتكوير يعني جعل الشيء علي هيئه مكوره‏(‏ هيئه الكره او شبه الكره‏),‏ اما مباشره او عن طريق لف شيء علي شيء اخر في اتجاه دائري شامل‏(‏ اي في اتجاه كروي‏),‏ وعلي ذلك فان من معاني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ ينشر بالتدريج ظلمه الليل علي مكان النهار من سطح الارض المكور فيحوله الي ليل مكور، كما ينشر نور النهار علي مكان ظلمه الليل من سطح الارض المكور فيحوله نهارا مكورا، وبذلك يتتابع كل من الليل والنهار علي سطح الارض الكروي بطريقه دوريه، مما يوكد حقيقتي كرويه الارض، ودورانها حول محورها امام الشمس باسلوب لا يفزع الافراد ولا يصدم المجتمعات التي بدا القران الكريم يتنزل في زمانها والتي لم يكن لها حظ من المعرفه بالكون وحقائقه‏.‏
‏(‏ب‏)‏ والاشارات القرانيه الضمنيه الي حقيقه كرويه الارض ليست مقصوره علي ايه سوره الزمر‏(‏ الايه الخامسه‏)‏ وحدها، وذلك لان الله‏(‏ تعالي‏)‏ يوكد في عدد من ايات القران الكريم علي مد الارض اي علي بسطها بغير حافه تنتهي اليها‏.‏ وهذا لا يمكن ان يحدث الا اذا كانت الارض كرويه الشكل، لان الشكل الوحيد الذي لا نهايه لبسطه هو الشكل الكروي، وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(1)‏ وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا‏. (‏ الرعد‏:53)‏
‏(2)‏ والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل شيء موزون (‏ الحجر‏:19)‏
‏(3)‏ والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج‏. (‏ ق‏:7)‏
‏(‏ ج‏)‏ كذلك يوكد القران الكريم كرويه الارض في ايات التطابق‏(‏ اي تطابق كل من السماوات والارضين‏)‏ ولا يكون التطابق بغير انحناء وتكوير، وفي ذلك يقول‏(‏ ربنا تبارك وتعالي‏):‏
الذي خلق سبع سماوات طباقا‏.. (‏ الملك‏:3)‏ اي متطابقه، يغلف الخارج منها الداخل فيها، ويشير القران الكريم الي اتفاق الارض في ذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن‏..(‏ الطلاق‏:12).‏ اي سبع ارضين متطابقه حول مركز واحد يغلف الخارج منها الداخل فيها‏.‏
‏(‏د‏)‏ كذلك تشير ايات المشرق والمغرب التي ذكرت بالافراد، والتثنيه، والجمع الي حقيقه كرويه الارض، والي دورانها حول محورها امام الشمس، والي اتجاه هذا الدوران، وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(1)‏ قال رب المشرق والمغرب ومابينهما ان كنتم تعقلون‏ (‏ الشعراء‏:28)‏
‏(2)‏ رب المشرقين ورب المغربين ‏(‏الرحمن‏:17)‏
‏(3)‏ فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون علي ان نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين‏ (‏ المعارج‏:41,40)‏

فالمشرق هو جهه طلوع الشمس، والمغرب جهه غيابها، ووجود كل من المشرق والمغرب يوكد كرويه الارض، وتبادلهما يوكد دورانها حول محورها امام الشمس من الغرب الي الشرق، ففي الوقت الذي تشرق فيه الشمس علي جهه ما من الارض تكون قد غربت في نفس اللحظه عن جهه اخري، ولما كانت الارض منبعجه قليلا عند خط الاستواء كانت هناك قمه عظمي للشروق واخري للغروب‏ (‏ رب المشرق والمغرب‏),‏ ولما كانت الشمس تشرق علي الارض في الفصول المختلفه من نقاط مختلفه، كما تغرب عنها من نقاط مختلفه‏(‏ وذلك بسبب ميل محور دوران الارض بزاويه مقدارها‏23,5‏ درجه علي مستوي فلك دورانها حول الشمس‏),‏ كانت هناك مشارق عديده، ومغارب عديده‏(‏ رب المشارق والمغارب‏),‏ وكانت هناك نهايتان عظميان لكل من الشروق والغروب‏(‏ رب المشرقين ورب المغربين‏),‏ وينتشر بين هاتين النهايتين العظميين نقاط متعدده لكل من الشروق والغروب علي كل من خطوط الطول وخطوط العرض، وعلي مدار السنه، لان دوران الارض حول محورها امام الشمس يجعل النور المنبثق عن ضوء هذا النجم ينتقل علي سطح الارض الكروي باستمرار من خط طول الي اخر محدثا عددا لا نهائيا من المشارق والمغارب المتعاقبه في كل يوم‏.‏

ووجود كل من جهتي المشرق والمغرب، والنهايات العظمي لكل منهما، وما بينهما من مشارق ومغارب عديده، وتتابع تلك المشارق والمغارب علي سطح الارض يوكد كرويتها، ودورانها حول محورها امام الشمس، وميل محور دورانها علي مستوي فلك دورانها، وكل ما ينتج عن ذلك من تعاقب الليل والنهار، وتبادل الفصول المناخيه، واختلاف مطالع الشمس ومغاربها علي مدار السنه، وكلها من الحقائق الكونيه التي لم تكن معروفه وقت تنزل القران الكريم، ولا لقرون متطاوله من بعده الا بصوره بدائيه ولنفر محدودين جدا من ابناء الحضارات السابقه التي لم تصل كتاباتهم الي شبه الجزيره العربيه الا بعد حركه الترجمه التي بدات في منتصف القرن الهجري الثاني‏ (‏ اي منتصف القرن الثامن الميلادي‏)‏ في عهد الدوله العباسيه، وورود مثل هذه الحقائق الكونيه في ثنايا الايات القرانيه بهذه الاشارات اللطيفه والدقيقه في نفس الوقت لمما يوكد ان القران الكريم هو كلام الله الخالق، وان النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والارض، وهي من الحقائق الاعتقاديه التي يحتاجها انسان اليوم الذي توفر له من اسباب التقدم العلمي والتقني ما لم يتوفر لجيل من البشر من قبل، ولكنه في ظل هذا التقدم فقد الصله بخالقه، ففقد الكثير من القيم الاخلاقيه النبيله والضوابط السلوكيه الصحيحه التي تدعو الي الارتقاء بالانسان الي مراتب التكريم التي رفعه اليها رب العالمين وتعينه علي اقامه عدل الله في الارض، بدلا من المظالم العديده التي تجتاحها في كثير من اجزائها، والخراب والدمار والدماء التي تغرقها، في ظل غلبه اهل الباطل علي اهل الحق، وفقدان هولاء الكفار والمشركين لادني علم بالدين الذي يرتضيه رب العالمين من عباده‏.‏
ولعل في الاشاره الي مثل هذا السبق القراني بالعديد من حقائق الكون ومظاهره ما يمكن ان يمهد الطريق الي الدعوه لهذا الدين، وتصحيح فهم الاخرين لحقيقته من اجل تحييد هذا الكم الهائل من الكراهيه للاسلام والمسلمين والتي غرسها ولا يزال يغرسها شياطين الانس والجن في قلوب الابرياء والمساكين من بني البشر فبداوا بالصراخ بصراع الحضارات ونهايه العالم، وبضروره اشعال حرب عالميه ثالثه بين الغرب ‏(‏ وهو في قمه من التوحد، والتقدم العلمي، والتقني، والتفوق الاقتصادي والعسكري‏),‏ والعالم الاسلامي ‏(‏ وهو في اكثر فترات تاريخه فرقه، وتمزقا، وانحسارا ماديا وعلميا وتقنيا وتخلفا عسكريا‏),‏ من اجل القضاء علي دين الله الحق‏..‏ والله غالب علي امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون‏.(‏ يوسف‏:21).‏

بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 14 يناير 2002  ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"

إرسال تعليق