
هاتان الايتان الكريمتان وردتا في مطلع الثلث الاخير من سوره النازعات، وهي سوره مكيه، تعني كغيرها من سور القران المكي بقضيه العقيده، والعقيده هي اساس الدين، وهي من القضايا الغيبيه غيبه مطلقه، ولذلك فالانسان محتاج فيها دوما الي بيان من الله، بيانا ربانيا خالصا لا يداخله ادني قدر من التصورات البشريه..!!
ومن ركائز العقيده:
الايمان باليوم الاخر وما سوف يحويه من بعث بعد الموت، ومن حساب وجزاء، ثم خلود في حياه ابديه اما في الجنه ابدا او في النار ابدا...!!!
وتبدا سوره النازعات بقسم من الله تعالي ( وهو الغني عن القسم) بعدد من طوائف ملائكته الكرام، وبالمهام المكلف بها كل منهم، علي ان الاخره حق، وانها واقعه لا محاله، وان كلا من البعث والحساب والجنه والنار حق، وان الخلود في اي منهما حتمي الحدوث، لا مفر منه، ولا انفكاك عنه، وتاتي هذه الايات بصياغه القسم من اجل تنبيه الناس الي اهميه الامر المقسم به، وجديته، وخطورته...!!!
ثم تعرض الايات بعد ذلك لشيء من اهوال الاخره من مثل رجف الارض( الراجفه يومئذ), ومور السماء( الرادفه), وكلاهما سوف يدمر في الاخره، وقد يكون المقصود بالراجفه والرادفه النفختين، اللتين يموت كل حي بعد الاولي منهما وترجف بها الارض ويبعث كل ميت بعد الثانيه وتمور السماء مورا.. وبعد ذلك تنتقل الايات الي وصف شيء من احوال الكافرين في هذا اليوم العصيب الرهيب، حين يبعث الخلق فجاه بعد موتهم، فتخفق قلوب المبعثين وجلا وخاصه الكافرين والعصاه المجرمين منهم، وتخشع ابصارهم ذلا، ويتساءلون في لهفه وذهول: هل نحن عائدون من حيث جئنا الي الحياه الدنيا مره ثانيه بعد ان كانت الاجساد قد بليت، والعظام قد نخرت؟ ام ان هذا هو البعث الذي سبق وان اخبرنا به في حياتنا الدنيا فانكرناه؟ وان كان ذلك كذلك فقد رجعنا رجعه خاسره، وقد يكون ذلك تذكيرا لهم بمقولتهم في الدنيا انكارا للبعث، وهنا يقول الله( تعالي):
فانما هي زجره واحده* فاذا هم بالساهره* ( النازعات:13 و14)
والزجره هي الصيحه، والساهره هي سطح الارض بصفه عامه وارض المحشر( بصفه خاصه), ويفهم من ذلك ان الامر بالبعث ياتي بصيحه واحده، فاذا بكافه الخلائق قيام يبعثون، ثم يساقون الي ارض المحشر ليواجهوا حسابهم العادل، ويلقوا جزاءهم الاوفي...!!!
وفي ايجاز معجز تلمح الايات بعد ذلك الي جانب من قصه كليم الله موسي ( عليه السلام) مع فرعون وملئه، مبتدئه باستفهام رقيق موجه الي خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) ثم عرض للقصه في كلمات محدوده تثبيتا له في مواجهه كفار قريش، وتثبيتا لكل داعيه الي دين الله من بعده في مواجهه اهل الكفر والشرك والضلال والطغيان في كل عصر وفي كل مكان، كما ياتي سرد تلك القصه تحذيرا للناس جميعا من مغبه سوء المصير الذي لقيه هذا الطاغيه الملقب بفرعون مصر والعذاب الذي حاق به وبالمكذبين الضالين من قومه في الدنيا، وما توعدهم الله( تعالي) به في الاخره من عذاب اشد وانكي...!! وتبقي هذه الايات المباركات درسا يتلقاه كل كيس عاقل فيخشي الله( تعالي) حبا له( سبحانه), وشكرا علي نعمائه، وخوفا من عذابه، ورجاء لثوابه في الدنيا والاخره ان شاء الله...!!!
ثم تتوجه الايات في سوره النازعات بعد سرد قصه موسي ( عليه السلام) بالخطاب مباشره الي منكري البعث من كفار قريش ( والي الكفار في كل زمان ومكان) بسؤال تقريعي توبيخي يقول: هل خلق الناس علي ضاله احجامهم، ونسبيه زمانهم ومكانهم، ومحدوديه قدراتهم اشد من خلق السماء؟ وبنائها المذهل في عظمه اتساعه، واحكام ترابطه والتحامه، وتعدد اجرامه وتكامل هيئاتها، واحكام ابعادها وحركاتها واحجامها، وكتلها، والمسافات الفاصله بينها، والارتفاعات السامقه الشاهقه التي رفعت اليها بغير عمد مرئيه، ولا دعامات مشاهده، وتعاظم القوي الممسكه بمختلف اجزائها، واتقان تسويتها مع تحرك كل جزئيه فيها، واظلام ليلها اظلاما تاما( بمعني ان الاصل في الكون الاظلام), واخراج ضحاها بهذا النور الابيض المبهج من بعد الظلام وهي نعمه كبري من نعم الخالق( سبحانه وتعالي)؟
وهل خلق الانسان اشد انجازا من دحو الارض، واخراج كل من مائها ومرعاها من داخلها؟
وهل هذا المخلوق الضعيف اشد خلقا من ارساء الجبال علي سطح الارض، وارساء الارض بالجبال كي لا تميد ولا تضطرب بسكانها تحقيقا لسلامه العيش عليها؟
وهذه التساولات يوردها ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه لعل منكري البعث من الطغاه والمتجبرين في الارض ان يجدوا فيها ما يمكن ان يعينهم علي ادراك شيء من مظاهر القدره الالهيه المبدعه في الكون والتي توكد علي حقيقه الخلق كما توكد علي امكانيه البعث بل علي ضرورته وحتميته....!!!
ثم عاودت السوره الكريمه الحديث عن القيامه، وسمتها باسم الطامه الكبري تعبيرا عن كونها داهيه عظمي، تعم باهوالها كل شيء، وتغطي علي كل مصيبه مهما عظمت، حيث يعرض الناس لا تخفي منهم خافيه، ويتذكر الانسان اعماله في الحياه الدنيا خيرها وشرها، وتبرز جهنم حتي يراها الخلق جميعا عيانا بيانا، ويقع الحساب العادل، وبعد الحساب ينقسم الناس الي شقي وسعيد، فالشقي هو كل ما قد جاوز الحد في الكفر والعصيان، والتجبر والطغيان، والجري وراء الشهوات، مفضلا الدنيا الفانيه علي الاخره الباقيه، وهذا ماواه جهنم وبئس المصير، والسعيد هو الذي خاف عظمه الله وجلاله فامن به، وخضع لاوامره، ونهي نفسه عن اتباع هواها، وحسب حساب مقامه بين يدي الله يوم العرض الاكبر، وهذا ماواه جنات النعيم..!!!
وتختتم سوره النازعات بخطاب موجه الي رسول الله ( صلي الله عليه وسلم) ردا علي سوال الكفار له عن الساعه متي قيامها؟ وياتي جواب الحق( تبارك وتعالي) بان علمها، ومردها، ومرجعها الي الله( تعالي) وحده الذي استاثر به دون كافه خلقه، وعلي ذلك فان دور النبي الخاتم والرسول الخاتم ( صلي الله عليه وسلم) هو انذار من يخشاها، وهي لهولها سوف تجعل الكفار والمشركين يرون حياتهم علي الارض مهما طالت كانها بضع ساعات من يوم واحد تقدر بمقدار عشيه او ضحاها، وذلك احتقارا لها، واستهانه بشانها...!!!
وهكذا ياتي ختام السوره متوافقا مع مطلعها في التاكيد علي حقيقه البعث وحتميته، والانذار باهواله وخطورته، حتي يستعد الناس للقاء ربهم بالايمان الخالص به، والخضوع بالطاعه له، وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الارض وهي من الركائز الاساسيه للدين الذي علمه ربنا( تبارك وتعالي) لابينا ادم( عليه الصلاه والسلام), وبعث به عددا كبيرا من الانبياء والمرسلين من بعده، واكمله واتمه في رسالته الخاتمه التي وجهها للناس كافه في القران الكريم، وفي احاديث خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم).
وهنا يبرز التساول عن مدلول كل من ارساء الجبال علي سطح الارض، وارساء الارض بالجبال، وهي من الايات الكونيه الناطقه بكمال القدره الالهيه المبدعه في خلق الارض، والموكده ان الذي يملك تلك القدره الخلاقه المبدعه قادر علي افناء خلقه وعلي اعاده بعثه من جديد...!!!
وقبل الاجابه علي هذا السوال لابد من استعراض موجز لكل من الدلاله اللغويه للفظي الجبل والارساء، ولاقوال المفسرين في هاتين الايتين الكريمتين.
الدلاله اللغويه
(الجبل) في اللغه هو المرتفع من الارض ارتفاعا ملحوظا يجعله يعظم ويطول علي ماحوله من الارض، وجمعه( جبال) و(اجبال), ودونه في الارتفاع( التل), ودون التل( الربوه) او( الرابيه) او( الاكمه) وجمعها( اكام), ودون الاكمه باتساع( النجد) او( الهضبه), ودون الهضبه( السهل) ودونه( المنخفض).
وللفظه( الجبل) بمشتقاتها واستعاراتها وتشبيهاتها معان اخري كثيره سبق التعرض لها في مقال الاثنين الماضي، ولا داعي لتكرار ذلك هنا.
اما الفعل( رسا),( يرسو),( رسوا) و(رسوا) فمعناه ثبت وقر، من مثل قولهم( رست) السفينه، اي وقفت عن الحركه في الماء علي الانجر( وهو مرساه السفينه), وفي هذا المعني يقول ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:
وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ان ربي لغفور رحيم* ( هود:41)
واللفظان( مجراها) و(مرساها) مصدران من جري وارسي( علي التوالي), بمعني باسم الله جريها وارساوها، ويستخدم الفعل( ارسي) مجازا بمعني تهدئه الامور، فيقال رسوت بين القوم اي اثبت بينهم ايقاع الصلح، ويقال( ارساه) غيره اي ثبته واقره، من مثل قول الحق( تبارك وتعالي): والجبال ارساها*.
و(المرسي هو مكان( الرسو) او زمانه، كما يقال للمصدر وللمفعول به، وفي معني( الزمان جاء قول الحق( سبحانه):
يسالونك عن الساعه ايان مرساها* ( الاعراف:187),( النازعات:42) اي قيامها وزمان ثبوتها.
(والمرساه) الاله التي ترسي بها السفينه، و(الرواسي) هي الجبال الثوابت الراسخه، واحدتها( راسيه), وجاءت لفظه( رواسي) بهذا المعني في القران الكريم تسع مرات من مثل قوله( تعالي):
وجعلنا فيها رواسي شامخات واسقيناكم ماء فراتا* ( المرسلات:27)
وجاءت لفظه( راسيات) مره واحده في كتاب الله وذلك في قوله( سبحانه):
يعملون له مايشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات...* ( سبا:13)
اي قدور ثابتات علي الاثافي( وهي الاحجار يوضع عليها القدر كي يوقد عليه من تحته).
شروح المفسرين
في تفسير قول الحق( تبارك وتعالي):
والجبال ارساها* متاعا لكم ولانعامكم* ذكر ابن كثير( يرحمه الله):[ اي قرها واثبتها في اماكنها، وهو الحكيم العليم، الرووف بخلقه الرحيم... وثبت جبالها لتستقر باهلها، ويقر قرارها، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون اليه من الانعام التي ياكلونها ويركبونها مده احتياجهم اليها في هذه الدار، الي ان ينتهي الامد وينقضي الاجل].
وجاء في تفسير الجلالين:( اثبتها علي وجه الارض لتسكن,( متاعا) مفعول له لمقدر اي: فعل ذلك متعه، او مصدر، اي تمتيعا( لكم ولانعامكم) جمع( نعم) وهي( الابل والبقر والغنم).
وجاء في الظلال:(... وارساء جبالها متاعا للانسان وانعامه، وهي اشاره توحي بحقيقه التدبير والتقدير في بعض مظاهرها المكشوفه للجميع..).
وجاء في صفوه البيان:( والجبال ارساها) اي وارسي الجبال، اي اثبتها في الارض كي لا تميد وتضطرب، وقوله( ارساها) تفسير للفعل المضمر قبله.( متاعا لكم ولانعامكم) اي تمتيعا لكم ولانعامكم، والايه تقريع لكفار مكه المنكرين للبعث، زاعمين صعوبته، بعد ان بين الله كمال سهولته بالنسبه الي قدرته...)
وجاء في المنتخب: والجبال ثبتها متاعا لكم ولانعامكم.
وجاء في صفوه التفاسير:( والجبال ارساها) اي والجبال اثبتها في الارض، وجعلها كالاوتاد لتستقر وتسكن باهلها,( متاعا لكم ولانعامكم) اي فعل ذلك كله... منفعه للعباد وتحقيقا لمصالحهم ومصالح انعامهم ومواشيهم....)
والجبال ارساها في ضوء المعارف الحديثه..
فهم المفسرون السابقون من هذه الايه الكريمه ان الضمير في( ارساها) يعود علي الجبال، ومن هنا قالوا ان عمليه الارساء تتعلق بالجبال، علي اساس من ان الضمير في العربيه يعود علي اقرب اسم اليه، وانطلاقا من ذلك فقد فهموا من قول الحق تبارك وتعالي:( والجبال ارساها) معني تثبيت الجبال في الارض، وجعلها كالاوتاد لتستقر وتسكن بمن عليها، فلا تميد ولا تضطرب، وهذا الكلام يحمل في طياته ايضا تثبيت الارض، خاصه ان ضمير الغائب في الايتين السابقتين( والذي جاء اربع مرات) يعود علي الارض، ولا يستبعد ان يكون كذلك في ايه الجبال حيث يقول ربنا( تبارك اسمه): والارض بعد ذلك دحاها* اخرج منها ماءها ومرعاها* والجبال ارساها* متاعا لكم ولانعامكم.
والصياغه هنا تحتمل دلاله وبالجبال ارساها، فيكون المعني ارساء الارض بواسطه الجبال، بينما المعني الاول يتعلق بارساء الجبال علي سطح الارض، والمعنيان صحيحان صحه كامله حسب معطيات علوم الارض الحديثه، فالجبال مثبته في الغلاف الصخري للارض، وهي ايضا تثبت الارض، كما سوف نوضح في الفقرات التاليه ان شاء الله.
اولا: والجبال ارساها بمفهوم ارساء الجبال علي سطح الارض
في خلال القرنين الماضيين تراكمت الادله العلميه التي تشير الي ان الغلاف الصخري للارض في حاله توازن تام علي الرغم من التباين الواضح في تضاريس سطحه، ومعني ذلك ان كتله الماده متساويه عبر كل انصاف اقطار الارض الممتده من مركزها الي مختلف النقاط علي سطحها مهما تباينت تضاريس السطح( سواء النقطه التي انتهي اليها نصف القطر كانت اعلي قمه جبليه او اخفض نقطه في اغوار المحيطات), ولا يمكن تفسير ذلك الا بتباين كثافه الصخور المكونه للاجزاء المختلفه من الغلاف الصخري للارض، فالسلاسل الجبليه العاليه لابد وان تتكون من صخور اقل كثافه من الصخور المحيطه بها، والمناطق المنخفضه لابد ان تتكون من صخور اعلي كثافه من صخور المناطق المرتفعه، وقد اكد ذلك ان الجزء العلوي من الغلاف الصخري للارض والمعروف باسم قشره الارض يتباين كل من سمكه وكثافته في القارات عنهما في قيعان البحار والمحيطات، فيتراوح سمك القشره القاريه بين30 و40 كيلو مترا، ويغلب علي تركيبها الصخور الجرانيتيه( بمتوسط كثافه2,7 جم/ سم3) بينما يتراوح سمك قشره قاع المحيط بين5 و8 كيلو مترات، ويغلب علي تركيبها الصخور البازلتيه( بمتوسط كثافه2,9 جم/ سم3) وبذلك تطفو كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات.
وبالمثل فان الواح الغلاف الصخري الحامله للقارات يتراوح سمكها بين100 و150 كيلو مترا، ويغلب علي تكوينها صخور ذات كثافه اقل نسبيا من الصخور المكونه لالواح قيعان البحار والمحيطات، والتي لا يتعدي سمكها سبعين كيلو مترا، وكلا الصنفين من الالواح المكونه لغلاف الارض الصخري( القاريه والمحيطيه) يطفو فوق نطاق اعلي كثافه، شبه منصهر، لدن( مرن) يعرف باسم نطاق الضعف الارضي، وهذا النطاق يتاثر بالضغوط فوقه نظرا لمرونته، فيتحرك الي اسفل كلما زادت عليه الضغوط، والي اعلي كلما قلت، ويتم ذلك بعمليتين متعاكستين تسمي الاولي منهما باسم التضاغط وتسمي الثانيه باسم الارتداد التضاغطي، وتتمان للمحافظه علي الاتزان الارضي، فاذا ارتفع الجبل بصخوره الخفيفه نسبيا الي قمم سامقه فلابد من ازاحه كم مساو لكتلته من الماده شبه المنصهره في نطاق الضعف الارضي الموجوده اسفل الجبل مباشره مما يساعد الصخور المكونه للجبل علي الاندفاع الي اسفل بامتدادات عميقه تسمي تجاوزا باسم جذور الجبال تخترق الغلاف الصخري للارض بالكامل لتطفو في نطاق الضعف الارضي، كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات، يحكمهما في الحالين قوانين الطفو، وبناء علي كثافه الصخور المكونه للجبال بالنسبه الي كثافه صخور نطاق الضعف الارضي، وكتله الجبل نفسه يكون عمق الامتدادات الداخليه لصخور الجبل( اي جذوره) وقد ثبت ان كل نتوء علي سطح الارض له امتداد في داخلها يتراوح بين10 و15 ضعف ارتفاع هذا النتوء فوق مستوي سطح البحر، وكلما زاد هذا الارتفاع الخارجي لتضاريس الارض زادت امتداداته الداخليه اضعافا كثيره، وهكذا تثبت الجبال علي سطح الارض بانغراسها في غلافها الصخري، وطفوها في نطاق الضعف الارضي. كما تعين علي تثبيت الارض ككوكب، فتقلل من ترنحها في دورانها حول محورها، كما تثبت الواح الغلاف الصخري للارض مع بعضها البعض باوتاد الجبال، فتربط القاره بقاع المحيط، فاذا استهلك قاع محيط فاصل بين قارتين ارتطمت القارتان ببعضهما، ونتج عن ذلك اعلي السلاسل الجبليه التي تربط باوتادها القارتين المصطدمتين فتقلل من حركه الالواح الصخريه الحامله لهما حتي توقفها، وبذلك تصبح الحياه علي سطحي القارتين المرتطمتين اكثر استقرارا.
وكلما برت عوامل التجويه والتحات والتعريه قمه الجبل دفعته قوانين الطفو الي اعلي حتي يتم خروج جذور( اوتاد) الجبل من نطاق الضعف الارضي بالكامل، وحينئذ يتوقف الجبل عن الارتفاع، وتستمر العوامل الخارجيه في بريه حتي يصل سمكه الي متوسط سمك لوح الغلاف الصخري الذي يحمله فيضم الي باقي صخور القاره الموجود فيها علي هيئه راسخ من رواسخ الارض.
ثانيا: والجبال ارساها بمفهوم ارساء الارض بواسطه الجبال
اختلف العلماء في فهم دور الجبال في ارساء الارض اختلافا كبيرا، وذلك لان مجموع كتل الجبال علي سطح الارض علي الرغم من ضخامتها تتضاءل امام كتله الارض المقدره بحوالي سته الاف مليون مليون مليون طن(5876*1810 طنا), وكذلك فان ارتفاع اعلي قمم الارض( اقل قليلا من تسعه كيلو مترات) لايكاد يذكر بجوار متوسط نصف قطر الارض(6371 كيلو مترا), فاذا جمع ارتفاع اعلي قمم الارض الي اعمق اغوار المحيطات( اقل قليلا من احد عشر كيلو مترا) فانه لايكاد يصل الي عشرين كيلو مترا ونسبته الي متوسط قطر الارض لاتتعدي0,3%.
من هنا يبرز التساول كيف يمكن للجبال ان تثبت الارض بكتلتها وابعادها الهائله، في الوقت التي لاتكاد كتله وابعاد الجبال ان تبلغ من ذلك شيئا؟
(ا) تثبيت الجبال لالواح الغلاف الصخري للارض
في اواخر الستينيات واوائل السبعينيات من القرن العشرين تمت بلوره مفهوم تحرك الواح الغلاف الصخري للارض، فقد اتضح ان هذا الغلاف ممزق بشبكه هائله من الصدوع تمتد لعشرات الالاف من الكيلو مترات لتحيط بالكره الارضيه احاطه كامله بعمق يتراوح بين65 و150 كيلو مترا، فتقسمه الي عدد من الالواح الصخريه التي تطفو فوق نطاق الضعف الارضي وتتحرك في هذا النطاق من نطق الارض التيارات الحراريه علي هيئه دوامات عاتيه من تيارات الحمل تدفع بالواح الغلاف الصخري للارض لتباعد بينها عند احد اطرافها، وتصدمها ببعض عند حوافها المقابله لحواف التباعد، وتجعلها تنزلق عبر بعضها البعض عند الحافتين الاخريين.
ويعين علي تسارع حركه الواح الغلاف الصخري للارض دوران الارض حول محورها امام الشمس، كما يعين علي ذلك اندفاع الصهاره الصخريه بملايين الاطنان عبر الصدوع الفاصله بين حدود الالواح المتباعده عن بعضها البعض، فيتكون بذلك باستمرار احزمه متوازيه من الصخور البركانيه التي تتوزع بانتظام حول مستويات الصدوع الفاصله بين الالواح المتباعده في ظاهره تعرف باسم ظاهره اتساع قيعان البحار والمحيطات، وتتكون الصخور الاحدث عمرا حول مستويات التصدع المتباعده، باستمرار وتدفع الصخور الاقدم عمرا في اتجاه اللوح المقابل عند خط الاصطدام وهنا يهبط قاع المحيط تحت القاره اذا كان اللوح المقابل يحمل قاره بنفس معدل اتساع قاع المحيط في كل جهه من جهتي الاتساع حول مستوي تصدع وسط المحيط الذي تتكون حوله سلاسل من الجروف البركانيه تمتد فوق قاع المحيط لعشرات الالاف من الكيلو مترات وتعرف باسم حواف اواسط المحيطات.
وينتج عن هبوط قاع المحيط تحت اللوح الصخري الحامل للقاره تكون اعمق اجزاء هذا المحيط علي هيئه جب عميق يعرف باسم الجب البحري، ونظرا لعمقه يتجمع في هذا الجب كم هائل من الرسوبيات البحريه التي تتضاغط وتتلاحم مكونه تتابعات سميكه جدا من الصخور الرسوبيه، ويتبادل مع هذه الصخور الرسوبيه ويتداخل فيها كم هائل من الصخور الناريه التي تعمل علي تحول اجزاء منها الي صخور متحوله.
وتنتج الصخور البركانيه عن الانصهار الجزئي لقاع المحيط المندفع هابطا تحت القاره، وتنتج الصخور المتداخله جزئيا عن الصهاره الناتجه عن هذا الهبوط، وعن الازاحه من نطاق الضعف الارضي بدخول اللوح الهابط فيه.
هذا الخليط من الصخور الرسوبيه والناريه والمتحوله يكشط باستمرار من فوق قاع المحيط بحركته المستمره تحت اللوح الصخري الحامل للقاره، فيطوي ويتكسر، ويضاف الي حافه القاره مكونا سلسله او عددا من السلاسل الجبليه ذات الجذور العميقه التي تربط كتله القاره بقاع المحيط فتهديء من حركه اللوحين وتعين علي استقرار اللوح الصخري الحامل للقاره استقرارا ولو جزئيا يسمح باعمارها.
وتتوقف حركه الواح الغلاف الصخري للارض بالكامل عندما تصل دوره بناء الجبال الي نهايتها حين تتحرك قارتان مفصولتان بمحيط كبير في اتجاه بعضهما البعض حتي يستهلك قاع المحيط كاملا بدخوله تحت احدي القارتين حتي تصطدما، فيتكون بذلك اعلي السلاسل الجبليه ارتفاعا كما حدث عند ارتطام اللوح القاري الحامل للهند باللوح الحامل لقارتي اسيا واوروبا وتكون سلسله جبال الهيمالايا.
من هنا اتضح دور الجبال في ارساء الواح الغلاف الصخري للارض وتثبيتها، ولولا ذلك ما استقامت الحياه علي سطح الارض ابدا، لان حركه هذه الالواح كانت في بدء خلق الارض علي درجه من السرعه والعنف لاتسمح لتربه ان تتجمع، ولا لنبته ان تنبت، ولا لحيوان او انسان ان يعيش، خاصه وان سرعه دوران الارض حول محورها كانت في القديم اعلي من معدلاتها الحاليه بكثير، لدرجه ان طول الليل والنهار معا عند بدء خلق الارض يقدر باربع ساعات فقط، وان عدد الايام في السنه كان اكثر من2200 يوم، وهذه السرعه الفائقه لدوران الارض حول محورها كانت بلاشك تزيد من سرعه انزلاق الواح الغلاف الصخري للارض فوق نطاق الضعف الارضي، وهي تدفع اساسا بظاهره اتساع قيعان البحار والمحيطات، وبملايين الاطنان من الصهاره الصخريه والحمم البركانيه المندفعه عبر صدوع تلك القيعان.
وبتسارع حركه الواح الغلاف الصخري للارض تسارعت الحركات البانيه للجبال، وبتسارع بنائها هدات حركه هذه الالواح، وهيئت الارض لاستقبال الحياه، وقبل مقدم الانسان كانت غالبيه الواح الغلاف الصخري للارض قد استقرت، بكثره تكون السلاسل والمنظومات الجبليه، واخذت الارض هياتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم الذي حمله الله تعالي مسئوليه الاستخلاف في الارض.
(ب) تثبيت الجبال للارض كلها ككوكب
تساءل العلماء عن امكانيه وجود دور للجبال في اتزان حركه الارض ككوكب وجعلها فرارا صالحا للحياه وجاء الرد بالايجاب لانه نتيجه لدوران الارض حول محورها فان القوه الطارده المركزيه الناشئه عن هذا الدوران تبلغ ذروتها عند خط استواء الارض، ولذلك فان الارض انبعجت قليلا عند خط الاستواء حيث تقل قوه الجاذبيه، وتطغي القوه الطارده المركزيه، وتفلطحت قليلا عند القطبين حيث تطغي قوه الجاذبيه وتتضاءل القوه الطارده المركزيه، وبذلك فان طول قطر الارض الاستوائي يزداد باستمرار بينما يقل طول قطرها القطبي، وان كان ذلك يتم بمعدلات بطيئه جدا، الا ان ذلك قد اخرج الارض عن شكلها الكروي الي شكل شبه كروي، وشبه الكره لا يمكن لها ان تكون منتظمه في دورانها حول محورها، وذلك لان الانبعاج الاستوائي للارض يجعل محور دورانها يغير اتجاهه رويدا رويدا في حركه معقده مردها الي تاثير جاذبيه اجرام المجموعه الشمسيه( خاصه الشمس والقمر) علي الارض، وتعرف هذه الحركه باسم الحركه البداريه( او حركه الترنح والبداريه).
وتنشا هذه الحركه عن ترنح الارض في حركه بطيئه تتمايل فيها من اليمين الي اليسار بالنسبه الي محورها العمودي الذي يدور لولبيا دون ان يشير طرفاه الشمالي والجنوبي الي نقطه ثابته في الشمال او في الجنوب، ونتيجه للتقدم او التقهقر فان محور دوران الارض يرسم بنهايته دائره حول قطب البروج تتم في فتره زمنيه قدرها نحو26,000 سنه من سنيننا.
ويتبع ترنح الارض حول مدارها مسار متعرج بسبب جذب كل من الشمس والقمر للارض،وتبعا للمتغيرات المستمره في مقدار واتجاه القوه البداريه لكل منهما ويودي ذلك الي ابتعاد الدائره الوهميه التي يرسمها محور الارض اثناء ترنحها وتحولها الي دائره مولفه من اعداد من الاقواس المتساويه، التي يبلغ عددها في الدوره الكامله1400 ذبذبه( او قوس) ويستغرق رسم القوس الواحد18,6 سنه اي ان هذه الدائره تتم في(26040) سنه، وتسمي باسم حركه الميسان( النودان او التذبذب) وقد اثبتت الدراسات الفلكيه ان لمحور دوران الارض عددا من الحركات الترنحيه التي تستغرق اوقاتا مختلفه يبلغ اقصرها عشره ايام، ويبلغ اطولها18,6 سنه من سنيننا.
ووجود الجبال ذات الجذور الغائره في الغلاف الصخري للارض، يقلل من شده ترنح الارض في دورانها حول محورها، ويجعل حركتها اكثر استقرارا وانتظاما وسلاسه تماما كما تفعل قطع الرصاص التي توضع حول اطار السياره لانتظام حركتها، وقله رجرجتها، وبذلك اصبحت الارض موهله للعمران.
وهنا يتضح وجه من اوجه الاعجاز العلمي في القران الكريم الذي انزل من قبل الف واربعمائه سنه، وذلك في قول ربنا( تبارك وتعالي): والجبال ارساها* وفي تكرار المعني في تسعه مواضع اخري من كتاب الله وصفت فيها الجبال بانها رواسي، وهي حقائق لم يتوصل الانسان الي ادارك شئ منها الا في في القرنين الماضيين بصفه عامه، وفي اواخر القرن العشرين بصفه خاصه، ولا يمكن لعاقل ان يتصور مصدرا لهذا السبق العلمي الا بيان الخالق سبحانه وتعالي...!!
وفي هذا من التاكيد القاطع، والحسم الجازم بان القران الكريم هو كلام الله الخالق، الذي انزله بعلمه، وان خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) تلقي هذا( القران) عن ربه بواسطه الوحي الذي بقي موصولا به حتي اتاه اليقين، وانه( عليه افضل الصلاه وازكي التسليم) ما ينطق عن الهوي فصلي اللهم وسلم وبارك علي سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 7 يناير 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"
إرسال تعليق