
هاتان الايتان الكريمتان جاءتا في مقدمات سوره النبأ، وهي سوره مكيه، شانها شان كافه السور المكيه يدور محورها حول قضيه العقيده، تلك القضيه الغيبيه التي لا يمكن للانسان ان يصل فيها الي تصور صحيح ابدا بغير هدايه ربانيه، ومن هنا كانت من قواعد الدين الذي من لوازم صحته ان يكون وحيا ربانيا خالصا لا يداخله ادني قدر من الصياغه او التصورات البشريه.
ومن اصول العقيده الاسلاميه الايمان بالبعث وبالحساب والجزاء، وبالخلود في حياه قادمه اما في الجنه ابدا، او في النار ابدا، والايمان بالبعث هو موضوع سوره النبأ ومحورها الاساسي، وذلك لان انكار البعث كان حجه كفار قريش، كما كان حجه الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين، كفرا برب العالمين، وجهلا بطلاقه قدرته التي لا تحدها حدود، او قياسا للقدره الالهيه بقدرات البشر المحدوده ظلما وعدوانا وجهلا بمدلول الالوهيه الحقه، ومن ثم عجز الكافرون عن تصور امكانيه البعث، او تعاجزوا عنه انصياعا لشهواتهم التي يرون ممارستها دون ادني مسئوليه او مساءله فانطلقوا في انكار البعث، وما يستتبعه من الحساب والجزاء، وفي التشكيك في كل ذلك وهو من صلب الدين الذي جاء به الاف من الانبياء، ومئات من المرسلين، وتكامل في بعثه النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم اجمعين).
ومن اجل التاكيد علي حقيقه البعث بعد الموت وما يستتبعه من حساب وجزاء ابتدات سوره النبأ باستنكار تساول الكافرين عنه تساول المنكر له او المتشكك في امكانيه وقوعه، والمحت بالتهديد القاطع لكل منكر او متشكك في تلك الحقيقه الربانيه الحاسمه، ثم اوردت عددا من الايات الكونيه الداله علي طلاقه القدره الالهيه في ابداع الخلق لكي تكون شاهده علي ان الخالق المبدع قادر علي افناء خلقه وعلي اعاده بعثه...!!!, ولذلك اكدت السوره علي حقيقه يوم البعث واهواله، وسمته باسم يوم الفصل لانه يوم قد وقته ربنا( تبارك وتعالي) للفصل بين العباد، سيجمع له كافه الخلق من الاولين والاخرين بعد فنائهم اجمعين وفناء الكون كله من حولهم، وذلك لحسابهم علي ما قد قدموا في حياتهم الدنيا، ولجزائهم الجزاء الاوفي علي ذلك..!!!
ثم تعرج بنا السوره علي بعض صور العقاب الذي اعده ربنا( تبارك وتعالي) للطاغين من الكفار والمشركين والمتجبرين في الارض من المنكرين لدين الله، والمكذبين باياته، والغافلين عن حسابه، وذلك بادخالهم الي جهنم وبئس المصير التي تترصد بهم، وتستعد لاستقبالهم وفيها من صور العذاب المهين ما نسال الله تعالي ان يجيرنا منه..!!!
وللمقارنه بين مصير هولاء الطاغين المكذبين ومصير عباد الله المتقين، تحدثت السوره عن شيء من جزاء المتقين من جنات ونعيم مقيم فضلا ورحمه من رب العالمين.
وختمت السوره الكريمه بتصوير شيء من اهوال يوم القيامه، وبدعوه الناس كافه الي الاستعداد لهذا اليوم الذي سوف يعود الخلق فيه الي الله، ليقفوا جميعا بين يديه للحساب، وان ياخذوا حذرهم حتي تحسن عودتهم، ويهون حسابهم فينجوا من العذاب المهين، ويرفلوا في جنات النعيم المقيم...!!!
وتضمن ختام سوره النبأ التحذير من عذاب يوم القيامه، حيث ينظر كل انسان صحيفه اعماله في هذه الحياه، وفيها كل ما قد قدمت يداه، فيحمد المتقون الله علي حسن هدايته وتوفيقه ويتمني كل كافر لو يستحيل ترابا املا في تحاشي هول هذا اليوم وهول المصير الاسود من بعده ولكن هيهات هيهات ان يفر احد من حساب الله وجزائه العادل...!!!
ومن الايات الكونيه التي قدمها ربنا( تبارك وتعالي) بين يدي سوره النبأ شاهده له( سبحانه) بطلاقه القدره في ابداعه لخلقه، وموكده امكانيه البعث بل حتميته وحقيقته جاء قوله( تعالي):
الم نجعل الارض مهادا والجبال اوتادا
وهاتان الايتان يمر عليهما الانسان دون ادراك حقيقي لفضل الله تعالي في الانعام بهما ولا بعمق الدلاله العلميه في كل منهما، لان حقيقه ذلك لم يدركها العلماء المتخصصون الا في العقود المتاخره من القرن العشرين، وهذا السبق القراني صوره من صور الاعجاز العلمي في كتاب الله سنعرض لها ان شاء الله( تعالي) في الاسطر التاليه بعد شرح الدلاله اللغويه لالفاظ الايتين الكريمتين واستعراض لاقوال المفسرين فيهما.
الدلاله اللغويه
من الالفاظ المهمه لفهم دلاله الايتين الكريمتين ما يلي:
اولا:( الارض): وهي لفظه في اللغه العربيه تدل علي اسم الكوكب الذي نحيا عليه، في مقابله بقيه الكون الذي يجمع تحت اسم السماء او السماوات. ولفظه( الارض) مونثه، واصلها( ارضه) وجمعها( ارضات) و( ارضون) بفتح الراء او بتسكينها وقد تجمع علي( اروض) و( اراض), ولفظه( الاراضي) تستخدم علي غير قياس.
ولما كانت( الارض) دون السماء فان العرب قد عبروا بلفظه( الارض) عن اسفل الشيء، كما عبروا بالسماء عن اعلاه، وقالوا:( ارض اريضه) اي حسنه النبت او حسنه( الارضه) كما يقال:( تارض) النبت بمعني تمكن علي( الارض) فكثر، و(تارض) الجدي اذا اكل نبت( الارض), ويقال كذلك( ارض نفضه) و(ارض رعده) اي تنتفض وترتعد اثناء حدوث كل من الهزات الارضيه والثورات البركانيه.
و(الارضه) حشره تاكل الخشب، يقال:( ارضت) الاخشاب( تورض)( ارضا) فهي( ماروضه) اذا اكلتها( الارضه).
ثانيا:( المهاد):( المهاد) والمهد في اللغه العربيه الممهد الموطا من كل شيء، ويطلق علي الفراش لبسطه وسهوله وطئه، يقال:( مهد) الفراش اي بسطه ووطاه، و(المهد) ما يهيا للصبي من فراش وثير و(تمهيد) الامور اصلاحها وتسويتها، يقال:( مهدت) لك كذا اي هياته وسويته، و(تمهيد) العذر هو بسطه وقبوله.
قال( تعالي): ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ( ال عمران:46)
وقال سبحانه وتعالي:
الذي جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا.. ( طه:53)
وقال تبارك وتعالي:
ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون (الروم:44)
وقال( عز من قائل):
ومهدت له تمهيدا ( المدثر:14)
وقال( سبحانه):
والارض فرشناها فنعم الماهدون ( الذاريات:48)
ثالثا:( والجبال) والاجبال: جمع( جبل) وهو المرتفع عما حوله من الارض ارتفاعا ملحوظا يجعله يعظم ويطول، ودونه( التل) ودون التل( الربوه) او( الاكمه), ودون الاكمه( النجد) او( الهضبه), ودون الهضبه( السهل).
ويقال:( اجبل) القوم اي صاروا الي( الجبال) بمعني وصلوا اليها، او دخلوها وسكنوا فيها، ويقال للحيه:( ابنه الجبل) لان الجبل ماواها، كما يقال لصدي الصوت( ابن الجبل) لان( الجبل) يردده، ويقال للداهيه( ابنه الجبل) لانها تثقل علي النفس كانها( الجبل) و( الجبله) و( الجبله) و( الجبله) و( الجبله) القوه البدنيه او صلابه الارض و( الجبال): البدن، يقال: فلان( مجبول) او( خطير الجبال) اي عظيم البدن تشبيها بالجبل، و( تجبل) ما عنده اي استنظفه، و(الجبل) ايضا ساحه البيت، او الكثير من كل شيء، يقال:( مال جبل) و( حي جبل) اي كثير، و( الجبل) و( الجبله) الجماعه من الناس( وفيها قراءات قريء بها قوله( تعالي): ولقد اضل منكم جبلا كثيرا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، كما قريء بضم او فتح الجيم وتسكين الباء. وبضم كل من الجيم والباء وتشديد اللام او تخفيفها) و(الجبله) الخلقه او الفطره واصله الوجه وما استقبلك منه، ومنه قوله( تعالي) والجبله الاولين بكسر الجيم او ضمها وكسر الباء او تسكينها والجمع( الجبلات). ومنها اخذت تسميه السائل الذي يملا جدار الخليه الحيه باسم الجبله( البروتوبلازم او السيتوبلازم).
يقال:( جبله) الله( جبلا) اي خلقه وفطره، اشاره الي ما ركب فيه من طباع، و( الجبلي) الفطري، و( الجبله) الاصل، و(الجبل) الغليظ، يقال: فلان ذو( جبله) اي غليظ الجسم، و( جبل) اي صار كالجبل في الغلظ، ويقال:( جبل) التراب( جبلا) اي صب عليه الماء ودعكه حتي صار طينا، ويقال:( جبله)( اي قطعه قطعا شتي، كما يقال فلان( جبل) لا يتزحزح تصورا لمعني الثبات فيه.
رابعا:( اوتادا) و( الاوتاد) جمع( وتد) بكسر التاء وبفتحها، والكسر اولي، وفعله( وتد), والامر منه( تد) بالكسر، و(الاوتاد) قطع من خشب او حديد غليظه الراس، مدببه النهايه، تثبت بها اركان الخيمه في الارض بدكها حتي يدفن اغلبها في الارض، ويبقي اقلها ظاهرا فوق السطح، فتشد بذلك العمق اركان الخيمه الي الارض فتثبتها وتجعلها قادره علي مقاومه فعل الرياح، والعواصف الهوجاء.
وياتي التعبير ب( ذي الاوتاد) في استعاره مجازيه بمعني كثير الجنود والعساكر الذين يشدون الملك ويثبتونه كما تشد الاوتاد اركان الخيام الي الارض فتثبتها نظرا لكثره خيامهم التي يضربون اوتادها في ارض معسكراتهم، كما قد تاتي في معني صاحب الابنيه العظيمه الشاهقه التي تشبه في عمق اساساتها اوتاد الجبال، وفي ارتفاعها علو الجبال وذلك من مثل قول الحق تبارك وتعالي:
[وفرعون ذي الاوتاد*] ( الفجر:10)
شروح المفسرين
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) في تفسير قول الحق تبارك وتعالي( الم نجعل الارض مهادا): اي ممهده للخلائق، ذلولا لهم، قاره، ساكنه، ثابته، وفي قوله تعالي( والجبال اوتادا): اي جعل لها اوتادا، ارساها بها، وثبتها، وقررها حتي سكنت، ولم تضطرب بمن عليها..
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( غفر الله لهما) كلاما مشابها اذ قالا:( الم نجعل الارض مهادا) اي فراشا كالمهد صالحه للحياه عليها؟( والجبال اوتادا) اي تثبت بها الارض كما تثبت الخيام بالاوتاد لئلا تميد بكم، والاستفهام للتقرير
وقال صاحب الظلال( رحمه الله رحمه واسعه: والمهاد: الممهد للسير، والمهاد اللين كالمهد.. وكلاهما متقارب، وهي حقيقه محسوسه للانسان في اي طور من اطوار حضارته ومعرفته، فلا تحتاج الي علم غزير لادراكها في صورتها الواقعيه، وكون الجبال اوتادا ظاهره تراها العين كذلك حتي من الانسان البدائي، وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه اليها النفس، غير ان هذه الحقيقه اكبر واوسع مدي مما يحسه الانسان البدائي لاول وهله بالحس المجرد، وكلما ارتقت معارف الانسان، وازدادت معرفته بطبيعه هذا الكون واطواره، كبرت هذه الحقيقه في نفسه، وادرك من ورائها التقدير الالهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم، والتنسيق بين افراد هذا الوجود وحاجاتهم، واعداد هذه الارض لتلقي الحياه الانسانيه وحضانتها، واعداد هذا الانسان للملاءمه مع البيئه والتفاهم معها.
وجعل الارض مهادا للحياه وللحياه الانسانيه بوجه خاص شاهد لا يماري في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر، فاختلال نسبه واحده من النسب الملحوظه في خلق الارض هكذا بجميع ظروفها، او اختلال نسبه واحده من النسب الملحوظه في خلق الحياه لتعيش في الارض.. الاختلال هنا او هناك لا يجعل الارض مهادا، ولا يبقي هذه الحقيقه. التي يشير اليها القران الكريم هذه الاشاره المجمله، ليدركها كل انسان وفق درجه معرفته ومداركه..
وجعل الجبال اوتادا.. يدركه الانسان من الناحيه الشكليه بنظره المجرد، فهي اشبه شيء باوتاد الخيمه التي تشد اليها. اما حقيقتها فنتلقاها من القران، وندرك منه انها تثبت الارض وتحفظ توازنها..
وقد يكون هذا لانها تعادل بين نسب الاغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال.. وقد يكون لانها تعادل بين التقلصات الجوفيه للارض والتقلصات السطحيه، وقد يكون لانها تثقل الارض في نقط معينه فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفيه.. وقد يكون لسبب اخر لم يكشف عنه بعد.. وكم من قوانين وحقائق مجهوله اشار اليها القران الكريم، ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين!
وذكر صاحب صفوه البيان لمعاني القران( رحمه الله) ما نصه: ( مهادا) فراشا موطا كالمهد، لتمكينكم من الاستقرار عليها والتقلب في انحائها، والانتفاع بما اودعناه لكم فيها.
والمهاد: مصدر بمعني ما يمهد، وجعلت به الارض مهادا مبالغه في جعلها موطئا للناس والدواب يقيمون عليها. او بتقدير مضاف، اي ذات مهاد،( والجبال اوتادا) كالاوتاد للارض، اي ارسيناها بالجبال لئلا تميد وتضطرب، كما يرسي البيت بالاوتاد لئلا تعصف به الرياح. جمع وتد بفتح التاء وكسرها وفعله كوعد
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم ما نصه: الم يروا من ايات قدرتنا انا جعلنا الارض ممهده للاستقرار عليها والتقلب في انحائها!! وجعلنا الجبال اوتادا للارض تثبتها وفي تعليق هامشي اضافوا ما نصه: يبلغ سمك الجزء الصلب من القشره الارضيه نحو60 كيلو مترا، وتكثر فيه التجاعيد فيرتفع حيث الجبال وينخفض ليكون بطون البحار وقيعان المحيطات، وهو في حاله من التوازن بسبب الضغوط الناتجه من الجبال، ولا يختل هذا التوازن الا بعوامل التعريه، فقشره الارض اليابسه ترسيها الجبال كما ترسي الاوتاد الخيمه.
وذكر صاحب صفوه التفاسير( بارك الله فيه) ما نصه:
(الم نجعل الارض مهادا) اي الم نجعل هذه الارض التي تسكنونها ممهده للاستقرار عليها، والتقلب في انحائها؟ جعلناها لكم كالفراش والبساط لتستقروا علي ظهرها، وتستفيدوا من سهولها الواسعه بانواع المزروعات؟( والجبال اوتادا) اي وجعلنا الجبال كالاوتاد للارض تثبتها لئلا تميد بكم كما يثبت البيت بالاوتاد، قال في التسهيل، شبهها بالاوتاد لانها تمسك الارض ان تميد.
الم نجعل الارض مهادا؟ في منظور العلوم الحديثه
استضاءه بمفهوم تحرك الواح الغلاف الصخري للارض وصلت الدراسات الحديثه في هذا المجال الي ان الارض بدات بمحيط غامر، ثم بتصدع قاع ذلك المحيط وبدء تحرك الالواح الصخريه المكونه لذلك القاع متباعده عن بعضها البعض في احد اطرافها، ومصطدمه في الاطراف المقابله، ومنزلقه عبر بقيه الاطراف، نتج عند الاطراف المتصادمه اعداد من اقواس الجزر البركانيه التي نمت بالتدريج الي عدد من القارات بمزيد من تصادمها، فتمايزت الواح الغلاف الصخري للارض الي الالواح المحيطيه، وتلك القاريه، وبتصادم الواح قيعان المحيطات بكتل القارات تكونت سلاسل الجبال الشبيهه بجبال الانديز علي الحافه الغربيه لامريكا الجنوبيه، وبتصادم الواح القارات مع بعضها تكونت اعلي السلاسل الجبليه علي سطح الارض من مثل سلاسل جبال الهيمالايا التي نتجت عن اصطدام كتله الهند بكتله قارتي اسيا واوروبا.
ومع تكون الاطواف، والمنظومات والسلاسل والاحزمه الجبليه ومجموعاتها المعقده اصبح سطح الارض علي درجه من وعوره التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدات عمليات التجويه والتحات والتعريه في بري تلك المجموعات الجبليه والاخذ من ارتفاعاتها باستمرار، وبنقل الفتات الصخري الناتج عن تلك العمليات الي احواض المحيطات والبحار بدات دوره الصخور التي لا تزال تتكرر ملايين المرات الي يومنا الراهن لتكسو منخفضات الارض بالتربه اللازمه للانبات والزراعه، ولتركز العديد من الثروات المعدنيه، ولتزيد من ملوحه البحار والمحيطات حتي تجعلها صالحه لحياه البلايين من الكائنات الحيه، ولتحفظ هذا الماء من الفساد، ولتركز معادن المتبخرات في صخور الارض.
ولما كانت عمليات التجويه والتحات والتعريه تزيل كميات كبيره من الصخور المكونه لمرتفعات سطح الارض كان من ضرورات الاتزان الارضي ان تتحرك الصهاره الصخريه تحت الغلاف الصخري للارض لتعوض فقدان الكتل التي تمت تعريتها، ولتحقق الاتزان الارضي بتعديل الضغوط في داخل الارض، ويودي ذلك الي رفع الجبال بطريقه تدريجيه.
وباستمرار تفاعل تلك القوي المتصارعه من عمليات التجويه والتعريه المقترنه بعمليات تحرك الصهاره الصخريه تحت الغلاف الصخري للارض وفي داخله، وعمليات رفع الجبال لتحقيق التوازن الارضي لفترات زمنيه طويله فانها تنتهي بانقاص سمك سلسله الجبال الي متوسط سمك لوح الغلاف الصخري الذي تتواجد عليه، وذلك بسحب جذور الجبال( الامتدادات الداخليه للجبال) من نطاق الضعف الارضي ورفعها حتي تظهر علي سطح الارض، وبخروج جذور الجبال من نطاق الضعف الارضي الذي كانت طافيه فيه كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات، فان الجبال تفقد القدره علي الارتفاع الي اعلي، وتظل عوامل التعريه في بريها حتي تسويها بسطح الارض تقريبا وحينئذ تنكشف جذور الجبال، وبها من الثروات المعدنيه ما لا يمكن ان يتواجد الا تحت مثل ظروف اوتاد الجبال التي تتميز بقدر هائل من الضغط والحراره.
وعلي هذا النحو فان الجبال قد لعبت ولا تزال تلعب دورا مهما في بناء قارات الارض وفي الزياده المستمره لمساحه تلك القارات باضافه الكتل الجبليه الي حواف تلك القارات بطريقه مستمره.
ومعني ذلك ان كل قارات الارض بدات بسلاسل من اقواس الجزر البركانيه في وسط المحيط الغامر، وان باصطدام تلك الجزر تكونت القارات علي هيئه اطواف ومنظومات و سلاسل واحزمه جبليه معقده، وان تلك المرتفعات جعلت سطح الارض علي درجه من وعوره التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدات سلسله من الصراع بين العمليات الارضيه الداخليه البانيه للجبال والرافعه لها، والعمليات الهدميه الخارجيه التي تبريها وتعريها، وفي نهايه هذا الصراع تنتصر العوامل الهدميه الخارجيه فتسوي الجبال، وتخفض من ارتفاعاتها بالتدريج في محاوله للوصول بها الي مستوي سطح البحر، ولذلك فان كل سهول ومنخفضات اليابسه الحاليه كانت في يوم من الايام جبالا شاهقه، ثم برتها عوالم التجويه والتحات والتعريه حتي اوصلتها الي مستوياتها الحاليه، وان الكتل الصخريه القديمه التي تعرف باسم الرواسخ( او المجن) وهي كتل مستقره نسبيا موجوده في اواسط القارات ما هي في الحقيقه الا جذور السلاسل الجبليه القديمه التي تم بريها.
هذه العمليات المعقده من الصراع بين القوي البانيه في داخل الارض والقوي الهدميه من خارجها هي التي ادت( بتخطيط من الخالق سبحانه وتعالي) الي بناء القارات، ورفعها فوق مستوي البحار والمحيطات علي هيئه مجموعات من اطواف ومنظومات وسلاسل واحزمه جبليه شاهقه ظلت تضاف الي بعضها البعض بانتظام وبطء لتزيد من مساحه القارات، التي كانت في بادئ الامر جبليه وعره، لا تسمح وعورتها بعمرانها، ثم بدات عوامل التعريه في الاخذ من تلك الجبال الشاهقه بالتدريج حتي حولتها الي السهول الواسعه، والهضاب والنجود المنخفضه والاوديه المحفوره والرواسخ الثابته التي تشكل اواسط القارات اليوم حتي وصلت الارض الي صورتها المناسبه للعمران بواسطه الانسان، ولذلك يمن علينا ربنا( تبارك وتعالي) بتمهيد الارض، ويلوم المنكرين للبعث بتوجيه هذا اللون من الاستفهام التقريري، التوبيخي، التقريعي الذي يقول فيه الحق( تبارك وتعالي).
الم نجعل الارض مهادا؟ اي الم نجعل لكم الارض فراشا موطا كالمهد لتمكينكم من الاستقرار عليها، والتقلب في انحائها، والانتفاع بما اودعناه لكم فيها كما اشار صاحب صفوه البيان لمعاني القران( رحمه الله) لان الارض لو بقيت جبالا شاهقه الارتفاع، متشابكه التضاريس، معدومه الممرات والمسالك، لما امكن العيش علي سطحها فسبحان الذي انزل هذه اللفته القرانيه المبهره في محكم كتابه من قبل الف واربعمائه من السنين، وهي حقيقه لم يدركها الانسان الا في العقود الاخيره من القرن العشرين!!
والجبال اوتادا في منظور العلوم الحديثه
من الامور المشاهده ان سطح الارض ليس تام الاستواء، وذلك بسبب اختلاف التركيب الكيميائي والمعدني، وبالتالي اختلاف كثافه الصخور المكونه لمختلف اجزاء الغلاف الصخري للارض، فهناك قمم عاليه للسلاسل الجبليه، وتنخفض تلك القمم السامقه الي التلال، ثم الروابي او الربي( جمع ربوه او رابيه) او الاكام( جمع اكمه) او النتوءات الارضيه، ثم الهضاب او النجود( جمع نجد) ثم السهول، ثم المنخفضات الارضيه والبحريه.
ويبلغ ارتفاع اعلي قمه علي سطح الارض( وهي قمه جبل افرست) في سلسله جبال الهيمالايا8840 مترا تقريبا فوق مستوي سطح البحر بينما يقدر منسوب اخفض نقطه علي سطح اليابسه( وهي حوض البحر الميت) بحوالي395 مترا تحت مستوي سطح البحر، ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسه بنحو840 مترا فوق مستوي سطح البحر، ويبلغ منسوب اكثر اغوار المحيطات عمقا10800 متر( وهو غور ماريا نوس في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين) بينما يبلغ متوسط اعماق المحيطات نحو اربعه كيلو مترات(3729 4500 متر) تحت مستوي سطح البحر.
ويبلغ الفارق بين اعلي قمه علي اليابسه واخفض نقطه في قيعان المحيطات8840+10,800=19640 مترا( اي اقل قليلا من عشرين كيلو مترا)
وهذا الفارق بين اعلي قمه علي سطح اليابسه واخفض نقطه في اغوار قيعان البحار العميقه والمحيطات اذا قورن بمتوسط نصف قطر الارض والمقدر بنحو6371 كيلو مترا فان النسبه لا تكاد تتعدي0,003 %, وهذه النسبه الضئيله تلعب دورا مهما في معاونه عوامل التعريه المختلفه علي بري صخور مرتفعات الارض، والقاء الفتات الناتج عنها في المنخفضات في دورات متعاقبه تعمل علي تسويه سطح الارض، وتكوين التربه، وتركيز الخامات المعدنيه، وجعل الارض صالحه للعمران كما سبق ان اسلفنا.
كذلك فان الادله العلميه التي تراكمت علي مدي القرنين التاسع عشر والعشرين تشير الي ان الغلاف الصخري للارض في حاله توازن تام، واذا تعرض هذا التوازن الي الاختلال في ايه نقطه علي سطح الارض فان تعديله يتم مباشره.
ومن هذه الادله ان القشره الارضيه تنخفض الي اسفل علي هيئه منخفضات ارضيه عند تعرضها لاحمال زائده، وترتفع الي اعلي علي هيئه نتوءات ارضيه عند ازاله تلك الاحمال عنها، ويتم ذلك بما يسمي باسم التضاغط والارتداد التضاغطي، الذي يتم من اجل المحافظه علي الاتزان الارضي، ومن امثله ذلك ما ينتج عن تجمع الجليد بسمك كبير علي اليابسه ثم انصهاره، او عند تخزين الماء بملايين الامتار المكعبه امام السدود ثم تصريفه، او بتراكم ملايين الاطنان من الترسبات امام السدود، ثم ازالتها، او بتساقط نواتج الثورات البركانيه العنيفه حول عدد من فوهات البراكين ثم تعريتها.
ففي العهد الحديث بدات في الانصهار تراكمات الجليد السميكه التي كانت قد تجمعت علي بعض اجزاء اليابسه من نصف الكره الشمالي منذ نحو المليوني سنه( خلال واحد من اكبر العصور الجليديه التي مرت بها الارض), ونتيجه لذلك بدات الارض بالارتفاع التدريجي في مناطق الانصهار التدريجي للجليد لتحقيق التوازن التضاغطي للارض، وهو من سنن الله فيها، وقد بلغ ارتفاع الارض بذلك330 مترا في منطقه خليج هدسون في شمال امريكا الشماليه، ونحو المائه متر حول بحر البلطيق حيث لايزال ارتفاع الارض مستمرا.
وامام كثير من السدود التي اقيمت علي مجاري الانهار تسببت بلايين الامتار المكعبه من المياه وملايين الاطنان من الرسوبيات التي تجمعت امام تلك السدود في حدوث انخفاضات عامه في مناسيب المنطقه، وزياده ملحوظه في نشاطها الزلزالي، يفسر ذلك بان الواح الغلاف الصخري المكونه للقارات( والتي يتراوح سمك كل منها بين المائه والمائه وخمسين كيلو مترا) يغلب علي تركيبها صخور ذات كثافه منخفضه نسبيا، بينما يغلب علي تركيب الواح الغلاف الصخري المكونه لقيعان البحار والمحيطات صخور ذات كثافه عاليه نسبيا( ولذلك لا يتجاوز سمك الواحد منها سبعين كيلو مترا فقط).
وكل من الواح الغلاف الصخري القاريه والمحيطيه يطفو فوق نطاق الضعف الارضي الاعلي كثافه وهو نطاق لدن( مرن), شبه منصهر، عالي اللزوجه ولذلك فهو يتاثر بالضغوط فوقه ويتحرك استجابه لها.
وبالمثل فان قشره الارض المكونه لكتل القارات يتراوح سمكها بين30 و40 كيلو مترا تقريبا ويغلب علي تركيبها الصخور الجرانيتيه والتي تغطي احيانا بتتابعات رقيقه ومتفاوته السمك من الصخور الرسوبيه( ومتوسط كثافه الصخور الجرانيتيه يبلغ2,7 جرام للسنتيمتر المكعب) بينما يتراوح سمك قشره الارض المكونه لقيعان البحار والمحيطات بين5 و8 كيلو مترات فقط، ويغلب علي تركيبها الصخور البازلتيه التي قد تتبادل مع الصخور الرسوبيه او تتغطي بطبقات رقيقه منها( ويبلغ متوسط سمك الصخور البازلتيه2,9 جرام للسنتيمتر المكعب), لذلك تطفو كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات.
وبنفس هذا التصور يمكن تفسير الاختلاف في تضاريس سطح الارض علي اساس من التباين في كثافه الصخور المكونه لكل شكل من اشكال تلك التضاريس، فالمرتفعات علي سطح اليابسه لابد وان يغلب علي تكوينها صخور اقل كثافه من الصخور المحيطه بها، ومن ثم فلابد وان يكون لها امتدادات من صخورها الخفيفه نسبيا في داخل الصخور الاعلي كثافه المحيطه بها، ومن هنا كان الاستنتاج بان الجبال لابد لها من جذور عميقه تخترق الغلاف الصخري للارض بالكامل لتطفو في نطاق الضعف الارضي، وهنا تحكمها قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافيه في مياه المحيطات.
وقد ايدت قياسات عجله الجاذبيه الارضيه هذا الاستنتاج باشارتها الي قيم اقل من المفروض نظريا في المناطق الجبليه، والي قيم اعلي من المفروض في المنخفضات الارضيه وفوق قيعان البحار والمحيطات، ويعتبر انكشاف جذور الجبال القديمه في اواسط القارات مما يثبت حدوث عمليات اعاده التعديل التضاغطي في الغلاف الصخري للارض.
وبفهم دوره حياه الجبال ثبت ان كل نتوء ارضي فوق مستوي سطح البحر له امتداد في داخل الغلاف الصخري للارض يتراوح طوله بين10 و15 ضعف ارتفاعه، وكلما كان الارتفاع فوق مستوي سطح البحر كبيرا تضاعف طول الجزء الغائر في الارض امتدادا الي الداخل، وعلي ذلك فان قمه مثل افرست لا يكاد ارتفاعها فوق مستوي سطح البحر يصل الي تسعه كيلو مترات(8848 مترا) لها امتداد في داخل الغلاف الصخري للارض يزيد عن المائه والثلاثين كيلو مترا، يخترق الغلاف الصخري للارض بالكامل ليطفو في نطاق الضعف الارضي، وهو نطاق شبه منصهر، لدن اي مرن، عالي الكثافه واللزوجه، تحكمه في ذلك قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافيه في مياه المحيطات، فكلما برت عوامل التعريه قمم الجبال ارتفعت تلك الجبال الي اعلي، وتظل عمليه الارتفاع تلك حتي يخرج جذر الجبل من نطاق الضعف الارضي بالكامل، وحينئذ يتوقف الجبل عن الحركه، ويتم بريه حتي يصل سمكه الي متوسط سمك اللوح الارضي الذي يحمله، وبذلك يظهر جذر الجبل علي سطح الارض، وبه من الثروات الارضيه ما لا يمكن ان يتكون الا تحت ظروف استثنائيه من الضغط والحراره لا تتوفر الي في جذور الجبال.
فسبحان الذي وصف الجبال من قبل الف واربعمائه سنه ( بالاوتاد) وهي لفظه واحده تصف كلا من الشكل الخارجي للجبل، وامتداده الداخلي ووظيفته، لان الوتد اغلبه يدفن في الارض، واقله يظهر علي السطح، ووظيفته التثبيت، وقد اثبتت علوم الارض في العقود المتاخره من القرن العشرين ان هكذا الجبال، بعد ان ظل وصف الجبال الي مشارف التسعينيات من القرن العشرين قاصرا علي انها مجرد نتوءات فوق سطح الارض، واختلفوا في تحديد حد ادني لارتفاع تلك النتوءات الارضيه اختلافا كبيرا، وفي السبق القراني بوصف الجبال بانها اوتاد تاكيد ان القران الكريم هو كلام الله الخالق وان النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والارض حيث لم يكن لاحد من البشر المام بامتدادات الجبال الداخليه الا بعد نزول الوحي بالقران باكثر من اثني عشر قرنا فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي اله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 31 ديسمبر 2001 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"
إرسال تعليق