اخر الاخبار

breaking/مقالات الدكتور/9
مقالات الدكتور

12:11 ص

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 21 مايو 2001 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم" 


"وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات‏ 47 )
يشير القرآن الكريم في عدد من آياته‏،‏ إلى الكون وإلى العديد من مكوناته ‏ـ السماوات والأرض‏،‏ وما بكل منهما من صور الأحياء والجمادات‏،‏ والظواهر الكونية المختلفة‏ ـ،‏ وتأتي هذه الآيات في مقام الاستدلال على طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعت هذا الكون‏،‏ بجميع ما فيه ومن فيه ‏،‏ وفي مقام الاستدلال كذلك على أن الإله الخالق الذي أبدع هذا الكون قادر على إفنائه‏،‏ وقادر على إعادة خلقه من جديد‏،‏ وذلك في معرض محاجة الكافرين والمشركين والمُتشكِّكين‏،‏ وفي إثبات الألوهية لرب العالمين بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏ .‏
وكانت دعوى الكافرين منذ الأزل‏،‏ وإلى يوم الدين‏،‏ هي محاولة إنكار قضيتي الخلق والبعث بعد الإفناء‏،‏ وهما من القضايا التي لا تقع تحت الإدراك المُباشِر للعلماء ‏،‏ على الرغم من أن الله ـ تعالى ـ قد أبقى لنا في أديم الأرض ‏،‏ وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية الملموسة ما يمكن أن يعين المُتفكِّرين المُتدبِّرين من بني الإنسان على إدراك حقيقة الخلق‏،‏ وحتمية الإفناء والبعث ‏،‏ ويبقى فهم تفاصيل ذلك في غيبة من الهداية الربانية شيئاً من الضرب في الظلام ‏،‏ وفي ذلك يقول الحق‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ‏ رداً على الظالمين من الكافرين والمشركين والمُتشكِّكين من الجن والإنس‏ :‏ " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدا "ً (الكهف‏:51)، وفي تشجيع الإنسان على التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض يقول ربنا‏ ـ تبارك وتعالى‏ ـ في مُحكَم كتابه‏ :‏ " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ‏(آل عمران‏:190‏-‏191) . ‏

وكان لنزول هاتين الآيتين الكريمتين وما تلاهما من آيات في السورة نفسها ‏،‏ وقع شديد على رسول الله‏ ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ،‏ الذي يروى عنه أنه قال عقب الوحي بها ‏:‏ " ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها‏ " .

وواضح الأمر في ذلك أن التفكر في خلق السماوات والأرض فريضة إسلامية لابد من قيام نفر من المسلمين بها ‏،‏ لأنها عبادة من أجلِّ وأعظم العبادات لله الخالق‏،‏ ووسيلة من أعظم الوسائل للتعرف على كل من حقيقة الخلق‏،‏ وحتمية الافناء وضرورة البعث‏،‏ وللتأكيد على عظمة الخالق‏ ـ سبحانه وتعالى‏ ـ،‏ وعلى تفرده بالألوهية ‏،‏ والربوبية‏،‏ والوحدانية‏،‏ فالكون الذي نحيا فيه شاسع الاتساع‏،‏ دقيق البناء‏،‏ مُحكَم الحركة‏،‏ مُنضبِط في كل أمر من أموره‏،‏ مبني على وتيرة واحدة من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته ‏،‏ وكون هذا شأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أنه قد وُجد بمحض المصادفة‏،‏ أو أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه ‏،‏ بل لابد له من مُوجِد عظيم ‏،‏ له من طلاقة القدرة ‏،‏ وكمال الحكمة‏،‏ وشمول العلم ما أبدع به هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه ‏،‏ وهذا الخالق العظيم لا ينازعه أحد في ملكه ‏،‏ ولا يشاركه أحد في سلطانه؛ لأنه رب هذا الكون ومليكه ‏،‏ ولا يشبهه أحد من خلقه ‏؛‏ لأنه ‏ـ‏ تعالى‏ ـ‏ خالق كل شيء‏،‏ وهو بالقطع فوق كل خلقه ‏،‏ لا يحده المكان‏،‏ ولا الزمان؛ لأنه ‏ـ سبحانه‏ ـ خالقهما ‏،‏ ولا يشكله أي من المادة أو الطاقة‏؛‏ لأنه‏ ـ تعالى‏ ـ‏ مُبدِعهما ‏،‏ ولا نعرف عن ذاته العلية إلا ما عرَّف به نفسه بقوله ‏ـ‏ عز من قائل ‏ـ :‏ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ  " (الشورى‏:11) ، وقوله‏ ـ‏ سبحانه ‏ـ‏ مُخاطِباً خاتم أنبيائه ورسله‏ ـ صلى الله عليه وسلم‏ ـ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ .لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ .وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ " (‏الإخلاص‏:1‏-‏4) .

من هنا كان التفكر في خلق السماوات والأرض مدخلاً عظيماً من مداخل الإيمان بالله ‏،‏ ولذا حضَّ عليه القرآن الكريم ‏،‏ كما حضَّت عليه السنة النبوية المُطهَّرة حضاً كثيرا‏ًً .‏

تأكيد القرآن الكريم على ما في السماوات والأرض من أدلة الخلق والإفناء والبعث :
يؤكد القرآن الكريم على ما في السماوات والأرض من الأدلة‏،‏ التي تنطق بطلاقة القدرة الإلهية في خلقهما وإبداعهما ‏،‏ كما تنطق بحتمية إفنائهما ‏،‏ وإعادة خلقهما من جديد في هيئة غير التي نراهما فيها اليوم ‏،‏ وذلك في عدد غير قليل من الآيات التي منها قوله ـ تعالى‏ ـ ‏: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ " (‏الأنعام‏:73) .‏ ، وقوله‏ ـ سبحانه ـ :‏ " خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ " (‏العنكبوت‏:44)‏ ، وقوله‏ ـ عز من قائل ـ :‏ " أولم يتفكروا فى أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ " (الروم‏:8)‏ ، وقوله‏ ـ‏ تعالى ـ :‏ " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ " ‏(‏الروم‏:22).
وقوله‏ ـ‏ سبحانه ـ : " وَهُوَ الَّـذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " (‏الروم‏:27) .‏

وقوله ‏ـ‏ سبحانه وتعالى‏ ـ : " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإليهِ المَصِيرُ " (‏التغابن‏:3) ، وقوله ‏ـ عز من قائل‏ ـ : " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ " (‏الزمر‏:5) ، 
وقوله‏ ـ سبحانه‏ ـ : " لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ "  (‏غافر‏:57)، وقوله‏ ـ تعالى‏ ـ : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ " (‏الشورى‏:29) ، وقوله‏ ـ‏ سبحانه وتعالى‏ ـ : " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ .‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ " (‏الدخان‏:38‏،‏39) .
  
تأكيد القرآن الكريم على أن الله ـ تعالى ـ هو خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء :
جاءت مادة (خَلَقَ) بمشتقاتها في القرآن الكريم مائتين وإحدى وستين‏ (261)‏ مرة‏،‏ لتأكيد أن عملية الخلق هي عملية خاصة بالله‏ ـ تعالى‏ ـ‏ وحده‏،‏ لا يشاركه فيها أحد‏،‏ ولا ينازعه عليها أحد‏،‏ ولا يَقدر عليها أحد غيره ـ‏ سبحانه وتعالى ـ‏ إلا بإذنه‏،‏ كذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بالإفراد والجمع في ثلاثمائة وعشر ‏(310)‏ موضعاً‏،‏ منها مائة وعشرون ‏(120)‏ مرة بصيغة الإفراد ‏(‏السماء‏)،‏ ومائة وتسعون‏ (190)‏ مرة بصيغة الجمع‏ (‏السماوات‏)‏ مُعرَّفة وغير مُعرَّفة‏،‏ كما وردت لفظة الأرض بمشتقاتها في أربعمائة وواحد وستين‏ (461)‏ موضعا‏ً،‏ وذلك في مقامات كثيرة تؤكد أن الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ‏ هو خالق السماوات والأرض ‏،‏ وخالق كل شيء ‏،‏ مثل قوله‏ ـ عز من قائل‏ ـ :‏
" ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (‏الأنعام‏:102) ، وقوله‏ ـ‏ سبحانه‏ ـ : " أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ " ‏(‏الأعراف‏:54) ، وقوله‏ ـ تعالى‏ ـ : " إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " (‏يونس‏:4) ‏، وقوله‏ ـ‏ سبحانه وتعالى‏ ـ : " قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ " (‏الرعد‏:16) ، وقوله‏ ـ تبارك وتعالى‏ ـ : " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً " ‏(‏الفرقان‏:2) ، وقوله‏ ـ عز من قائل ـ : " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " (‏الزمر‏:62) ، وقوله‏ ـ سبحانه ـ : " ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " (‏غافر‏:62) ، وقوله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ : " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ " (‏القمر‏:49) ، وقوله‏ ـ‏ سبحانه وتعالى ـ : " هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ " (‏الحشر‏:24)‏ .
هذا‏،‏ وقد أفاض القرآن الكريم في حسم قضيتي الخلق والبعث بنسبتهما إلى الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ‏ وحده‏؛‏ وذلك لأن هاتين القضيتين كانتا من أصعب القضايا التي خاض فيها الجاحدون والمتشككون بغير علم ولا هدي عبر التاريخ‏،‏ ولا يزالون يستخدمون هذا الجحود والإنكار في معارضة قضية الإيمان بالله الخالق البارئ المصور‏،‏ ويرد عليهم القرآن الكريم بقول الحق‏ ـ تبارك وتعالى‏ ـ ‏: " أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ " (‏النحل‏:17) ، وقوله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ في السورة نفسها‏ : " وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ " (‏النحل‏:20)‏ ، وقوله‏ ـ‏ سبحانه وتعالى‏ ـ : " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ " ‏(‏الفرقان‏:3) ، وقوله‏ ـ تبارك وتعالى‏ ـ : " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ " (‏الطور‏:35،‏36)، وقوله‏ ـ عز من قائل‏ ـ :  قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ " (‏يونس‏:34)، وقوله ـ تعالى‏ ـ ‏: أَو لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" ‏(‏العنكبوت‏:19-‏20) .

موقف الحضارة الإسلامية من قضية الخلق :
بعد بعثة المصطفى ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ انطلق المسلمون من الإيمان بحقيقة الخلق‏،‏ وحتمية البعث‏،‏ ليقيموا‏ ـ على أساس من تلك العقيدة الربانية الخالصة‏ ـ أعظم حضارة في التاريخ ‏،‏ لأنها كانت الحضارة الوحيدة التي جمعت بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة‏،‏ واستمرت لأكثر من عشرة قرون كاملة‏،‏ تدعو إلى عبادة الله ‏ـ‏ تعالى ـ‏ بما أمر ‏(‏على التوحيد الخالص لذاته العلية‏،‏ والتنزيه الكامل لأسمائه وصفاته عن الشبيه والشريك والمنازع‏)،‏ وإلى حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏،‏ وإقامة عدل الله فيها‏،‏ على أساس من شرعه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله‏،‏ والذي تعهد‏ ـ‏ سبحانه وتعالى ـ‏ بحفظه بنفس اللغة التي أُنزل بها‏ ـ‏ كلمة كلمة وحرفاً حرفاً‏ ـ‏ فحُفظ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد نزول هذا الوحي الخاتم‏،‏ وتعهد الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ‏ بحفظه من الضياع أو التحريف ‏.‏

وبهذا الجمع المُتزِن بين وحي السماء والاجتهاد في كسب المعارف النافعة‏،‏ حملت حضارة الإسلام مشاعل المعرفة في كل مناشط الحياة الدينية والعمرانية،‏ وأقامت قاعدة صلبة للدين والعلم والتقنية‏،‏ وآمنت بوحدة المعرفة‏،‏ وبأن الحكمة هي ضالة المؤمن ‏،‏ أنى وجدها فهو أولى الناس بها‏،‏ فجمعت المعارف من مختلف مصادرها مهما تباعدت أماكنها‏،‏ واختلفت الحضارات التي انبثقت عنها‏،‏ ومعتقدات أصحابها‏،‏ ولكنها لم تقبل تلك المعارف قبول التسليم‏،‏ فقامت بغربلة تراث الإنسانية المتاح لها‏‏ بمعيار الإسلام العظيم القائم على أساس من التوحيد الخالص لله؛‏ وذلك لتطهير هذا التراث من أدران الشرك والكفر والجحود بالله ‏،‏ وأضافت إليه إضافات أصيلة عديدة في كل المجالات‏،‏ مما مثل القاعدة التي انطلقت منها النهضة العلمية والتقنية المعاصرة ‏،‏ كما يعترف بذلك عدد غير قليل من العلماء المعاصرين غربيين وشرقيين‏ .‏

ولم يَحِل الإيمان بالغيب دون التقدم العلمي والتقني في الحضارة الإسلامية ‏،‏ بل حضَّ عليه الإسلام حضا‏ًً،‏ واعتبره نمطاً من أنماط عبادة الله‏ ـ‏ تعالى‏ ـ،‏ والتفكر في خلقه‏،‏ ووسيلة منهجية لاستقراء سنن الله في الكون‏،‏ وتوظيفها في عمارة الأرض ‏،‏ وهي من واجبات الاستخلاف في الأرض ‏،‏ والوجه الثاني للعبادة التي يمثل وجهها الأول عبادة الله‏ ـ‏ تعالى ـ بما أمر ‏،‏ واتباع سنة خاتم الأنبياء والمرسلين‏ ـ‏ صلى الله عليه وسلم‏ ـ .‏
موقف الحضارة المادية المعاصرة من قضية الخلق :
انطلقت الحضارة المادية المُعاصِرة في الأصل من بوتقة الحضارة الإسلامية‏،‏ ولكن على مغايرة من حضارة المسلمين ‏،‏ فإن الغرب بني حضارته على أساس من المادية البحتة ‏،‏ فنبذ الدين ‏،‏ ووقف موقف المُنكِر لقضية الإيمان بالله‏،‏ وملائكته ‏،‏ وكتبه ‏،‏ ورسله‏،‏ واليوم الآخر ‏،‏ الرافض لكل أمر غيبي ‏،‏ في عداء صريح ‏،‏ واستهجان أوضح ‏،‏ فتنكَّب الطريق ‏،‏ وضل ضلالاً بعيداً على الرغم من القدر الهائل من الكشوف العلمية‏،‏ والانجازات التقنية المُذهِلة التي حققها‏،‏ والتي يمكن أن تكون سبباً في دماره في غيبة الالتزام الديني والروحي والأخلاقي،‏ وصدق الله العظيم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق : " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عليهمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ " (‏الأنعام‏:44‏-‏45)‏ .

وبنبذ الإيمان بالله‏،‏ وصلت المجتمعات الغربية إلى مستوى مُتدنٍ من التحلل الأخلاقي ‏،‏ والانهيار الاجتماعي ‏،‏ ومجافاة الفطرة التي فطر الله الخلق عليها‏،‏ في وقت ملكت فيه من أسباب الغلبة المادية ما يمكن أن يعينها على الاستعلاء في الأرض‏،‏ والتجبر على الخلق ‏،‏ ونشر المظالم بغير مراعاة لرب ، أو مخافة من حساب ‏،‏ مما يمكن أن يهدد البشرية بالفناء‏ .
ولا تزال المعارف الإنسانية بصفة عامة ‏،‏ والعلمية منها بصفة خاصة ‏،‏ تُكتب إلى يومنا هذا‏،‏ من منطلقات مادية صرفة‏،‏ لا تؤمن إلا بالمُدرَك المحسوس ‏،‏ وتتنكر لكل ما هو فوق ذلك ‏،‏ فدارت بالمجتمعات الإنسانية في متاهات من الضياع‏،‏ ضلت وأضلت‏،‏ على الرغم من الكم الهائل من المعلومات التي تحتويها‏،‏ وروعة التقنيات التي أنجزتها‏.

وكان ضلال الحضارة المادية المُعاصِرة أبلغ ما يكون في القضايا التي لا يمكن إخضاعها لإدراك الإنسان المُباشِر‏،‏ من مثل قضايا الخلق والإفناء والبعث ‏(‏خلق الكون‏،‏ خلق الحياة‏،‏ خلق الإنسان‏،‏ ثم إفناء كل ذلك وإعادة خلقه من جديد‏)،‏ وهي من القضايا التي إذا خاض فيها الإنسان بغير هداية ربانية فإنه يضل ضلالاً بعيدا‏ًً،‏ وصدق الله العظيم إذ يقول في الرد على هؤلاء الظالمين من الكافرين والمشركين والمتشككين من   الجن والإنس‏ :‏ " مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً "‏(‏ الكهف‏:51)‏ .

وعلى الرغم من تأكيد القرآن الكريم أن أحداً من الجن والإنس‏،‏ لم يشهد خلق السماوات والأرض‏،‏ ولا خلق نفسه‏،‏ فإنه يؤكد ضرورة التفكر في خلق السماوات والأرض‏،‏ وخلق الحياة لأن ذلك من أعظم الدلائل على طلاقة القدرة الإلهية‏،‏ وكمال الصنعة الربانية‏،‏ وعلى كلٍِ من حتمية الآخرة وضرورة البعث والحساب والجنة والنار‏،‏ وذلك لأن الخالق‏ ـ سبحانه وتعالى‏ ـ‏ قد ترك لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء ما يمكن أن يعين الإنسان على فهم قضيتي الخلق والبعث‏،‏ بالرغم من محدودية قدراته الذهنية والحسية‏،‏ واتساع الكون وضخامة أبعاده وتعقيد بنائه‏،‏ وكذلك تعقيد بناء الجسد الإنساني وبناء خلاياه‏،‏ وهي صورة رائعة لتسخير الكون للإنسان‏،‏ وجعله في متناول إدراكه وحسه ‏.‏

خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم ‏:‏
من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة‏،‏ لخص لنا ربنا‏ ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ‏ في صياغة كلية شاملة عملية خلق السماوات والأرض‏،‏ وإفنائهما وإعادة خلقهما من جديد‏،‏ في خمس آيات من القرآن الكريم على النحو التالي ‏:‏
‏(1)‏ " وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ " (‏الذاريات‏:47)‏ .
(2)‏ " أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ " (‏الأنبياء‏:30)‏ .
‏(3) " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " (‏ فصلت‏:11)‏ .
‏(4) ‏" يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِيْنَ " (‏الأنبياء‏:104)‏ .
‏(5) ‏" يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ " (‏ إبراهيم‏:48)‏ .

وهذه الآيات الكريمات تشير إلى أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار‏،‏ وإذا عدنا بهذا الاتساع إلى الوراء مع الزمن فلابد أن يتكدس على هيئة جرم واحد ‏(‏مرحلة الرتق‏)،‏ وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله‏ (‏مرحلة الفتق‏)،‏ فتحول إلى غلالة من الدخان ‏(‏مرحلة الدخان‏)،‏ خلُقت منه الأرض والسماوات‏ (‏مرحلة الإتيان‏)،‏ وأن الكون منذ لحظة انفجاره في توسع مُستمِر‏،‏ وأن هذا التوسع سوف يتوقف في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله‏،‏ بأمر منه ‏(‏تعالى‏)،‏ فيبدأ الكون في الانطواء على ذاته‏،‏ والتكدس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول‏،‏ الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض‏،‏ فتتكرر عملية الانفجار والتحول إلى الدخان الذي تُخلق منه أرض غير أرضنا الحالية‏،‏ وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا‏،‏ وهنا تنتهي رحلة الحياة الدنيا وتبدأ رحلة الآخرة‏،‏ ومراحل الرتق والفتق والدخان‏،‏ والإتيان بالسماوات والأرض‏،‏ وتوسع السماء ثم طيها تعطينا كليات مراحل الخلق والإفناء والبعث دون الدخول في التفاصيل‏ .‏

وهذه الحقائق القرآنية لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين‏،‏ مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية بأكثر من أربعة عشر قرنا‏ًً،‏ وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لا يمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق‏،‏ كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين‏ ـ‏ صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏ ـ،‏ بأنه كان موصولاً بالوحي‏،‏ مُعلَّماً من قبل خالق السماوات والأرض‏،‏ حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي‏،‏ ولا لقرون مُتطاوِلة من بعد نزوله‏،‏ وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله‏،‏ وشمولها‏،‏ وكمالها‏،‏ وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر‏،‏ وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد‏،‏ وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله ‏.‏
بدايات تعرف الإنسان على ظاهرة توسع الكون :
إلى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين‏،‏ ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره‏،‏ في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق‏ ـ‏ سبحانه وتعالى ـ‏ حتى ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة (دوبلر) على حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا‏،‏ ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر‏،‏ كان العالم النمساوي دوبلر (C. Doppler) قد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتاً مُتصِلاً ذا طبقة صوتية ثابتة‏،‏ ولكن هذه الطبقة الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد‏،‏ وتهبط كلما ابتعد عنه‏،‏ وفسر دوبلر السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عدداً من الموجات الصوتية المُتلاحِقة في الهواء‏،‏ وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطاً شديداً كلما اقترب مصدر الصوت‏،‏ فترتفع بذلك طبقة الصوت‏،‏ وعلى النقيض من ذلك‏،‏ فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتى تصل إلى سمع الراصد‏،‏ فتنخفض بذلك طبقة الصوت ‏.

كذلك لاحظ دوبلر أن تلك الظاهرة تنطبق أيضاً على الموجات الضوئية‏،‏ فعندما يصل إلى عين الراصد ضوء مُنبعِث من مصدر مُتحرِّك بسرعة كافية‏،‏ يحدث تغير في تردد ذلك الضوء‏،‏ فإذا كان المصدر يتحرك مُقترِباً من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المُدرَك نحو التردد العالي‏ ـ‏ أي نحو الطيف الأزرق‏ ـ،‏ وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء‏،‏ وإذا كان المصدر يتحرك مُبتعِداً عن الراصد‏،‏ فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المُنخفِض‏ ـ‏ أي نحو الطرف الأحمر من الطيف‏ ـ،‏ وتُعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء‏،‏ وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا ‏.‏

ففي سنة ‏1914‏م أدرك الفلكي الأمريكي سلايفر ‏Slipher)) أنه بتطبيق ظاهرة دوبلر على الضوء القادم إلينا من النجوم‏،‏ في عدد من المجرات البعيدة عنا‏،‏ ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة‏،‏ وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك‏،‏ وهل يمكن أن يشير إلى تمدد الكون المُدرَك بمعني تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة ؟

وبحلول سنة ‏1925م،‏ تمكن هذا الفلكي نفسه Slipher)) من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة مُتباعِدة عن مجرتنا‏ ـ سكة التبانة ـ،‏ وعن بعضها البعض ‏.‏
وفي سنة ‏1929‏م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير هبل إدوين Edwin) (Hubble، من الوصول إلى الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مُؤدَّاه ‏:‏ أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسباً طردياً مع بعدها عنا‏،‏ والذي عُرف من بعد باسم قانون هبل Hubble)‏ ‏ (Slaw.

وبتطبيق هذا القانون تمكن هبل من قياس أبعاد العديد من المجرات‏،‏ وسرعة تباعدها عنا‏،‏ وذلك بمشاركة من مساعده ملتون هيوماسون Milton) (Humason، الذي كان يعمل معه في مرصد جبل ولسون بولاية كاليفورنيا‏،‏ وذلك في بحث نشراه معا في سنة ‏1934‏م‏ .‏

وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض‏،‏ إلى حقيقة توسع الكون المُدرَك‏،‏ التي أثارت جدلاً واسعاً بين علماء الفلك‏،‏ الذين انقسموا فيها بين مُؤيِّد ومُعارِض حتى ثبتت ثبوتاً قاطعاً بالعديد من المُعادَلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء ‏.

ففي سنة ‏1917‏م أطلق ألبرت أينشتاين (A. Einstein)، نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية‏،‏ وأشارت النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت‏،‏ فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقاً لعدد من القوانين المُحدَّدة له‏،‏ وجاء ذلك على عكس ما كان أينشتاين وجميع مُعاصِريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدون‏،‏ انطلاقاً من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق‏،‏ وقد أصاب أينشتاين الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبئ‏،‏ رغم أنفه‏،‏ بأن الكون في حالة تمدد مُستمِر‏،‏ ولذلك عمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني‏،‏ ليلغي حقيقة تمدد الكون من أجل الادعاء بثباته واستقراره‏،‏ ثم عاد ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته ‏.‏

وقد قام العالم الهولندي وليام دي سيتر (William de Sitter)، بنشر بحث في نفس السنة ‏(1917‏م‏)‏ استنتج فيه تمدد الكون انطلاقاً من النظرية النسبية ذاتها‏ .
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقى القبول من أعداد كبيرة من العلماء‏،‏ فقد أجبرت ملاحظات كل من سلايفر ‏(1914‏م‏)،‏ ودي سيت ر‏(1917‏م‏)،‏ وهبل ومساعده هيوماسون ‏(1934‏م‏)، و‏ جميع الفلكيين الممارسين‏،‏ وعدداً من المُشتغِلين بالفيزياء النظرية‏،‏ وفي مقدمتهم ألبرت أينشتاين‏،‏ ومجموعة البحث العلمي بجامعة كمبردج‏،‏ والمُكوَّنة من كل من هيرمان بوندي (Herman Bondi)، وتوماس جولد Thomas) (Gold،  وفريد هويل (Fred Hoyle)، والتي ظلت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون‏،‏ رافضين الاعتراف بحقيقة توسع الكون المُدرَك ‏.‏
وسبحان الله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق ‏: " وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ " (‏ الذاريات‏:47) .

وتشير هذه الآية الكريمة إلى عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق‏،‏ وقت تنزل القرآن الكريم‏،‏ ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله‏،‏ منها ‏:
أولاً ‏:‏ إن السماء بناء محكم التشييد‏،‏ دقيق التماسك والترابط‏،‏ وليست فراغاً كما كان يعتقد إلى عهد قريب‏،‏ وقد ثبت علمياً أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جداً من الغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين‏،‏ وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المُتناهِية في الصغر من المواد الصلبة‏،‏ على هيئة غبار دقيق الحبيبات‏،‏ يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم‏،‏ والصوديوم‏،‏ والبوتاسيوم‏،‏ والتيتانيوم‏،‏ والحديد‏،‏ بالإضافة إلى جزيئات من بخار الماء‏،‏ والأمونيا‏،‏ والفورمالدهايد‏،‏ وغيرها من المركبات الكيميائية ‏.‏

وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم‏،‏ فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد‏،‏ مُتماسِك الأطراف‏،‏ وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين‏،‏ بل في العقود المُتأخِّرة منه ‏.‏
وعلى الرغم من رقة كثافة المادة في المسافات بين النجوم‏،‏ والتي تصل إلى ذرة واحدة من الغاز في كل سنتيمتر مكعب تقريباً من المسافات البينية للنجوم‏،‏ وإلى أقل من ذلك بالنسبة للمواد الصلبة‏ ـ الغبار الكوني ـ ‏ إذا ما قورن بحوالي مليون مليون مليون جزيء (1810)‏ في كل سنتيمتر مكعب من الهواء عند سطح الأرض‏،‏ فإن كمية المادة في المسافات بين النجوم تبلغ قدراً مُذهِلاً للغاية‏،‏ فهي تُقدَّر في مجرتنا‏ ـ‏ سكة التبانة‏ ـ‏ وحدها بعشرة بلايين ضعف ما في شمسنا من مادة‏،‏ مما يمثل حوالي ‏%5‏ من مجموع كتلة تلك المجرة‏ .‏

ثانيا‏ًً :‏ إن في الإشارة القرآنية الكريمة " وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ " أي بقوة وحكمة واقتدار‏،‏ تلميحاً إلى ضخامة الكون المُذهِلة‏،‏ وإحكام صنعه‏،‏ وانضباط حركاته‏،‏ ودقة كل أمر من أموره‏،‏ وثبات سننه‏،‏ وتماسك أجزائه‏،‏ وحفظه من التصدع أو الانهيار‏،‏ فالسماء لغةً : هي كل ما علاك فأظلك‏،‏ ومضموناً :

هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء‏،‏ التي لا يدرك العلم إلا جزءاً يسيراً منها‏،‏ ويحصي العلماء أن بالجزء المُدرَك من السماء الدنيا مائتي بليون من المجرات‏،‏ بعضها أكبر كثيراً من مجرتنا ـ‏ درب اللبانة أو سكة التبانة ـ،‏ وبعضها أصغر قليلاً منها‏،‏ وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون والعشرة ملايين الملايين‏،‏ وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة‏ ـ‏ الميلاد‏،‏ الطفولة‏،‏ الشباب‏،‏ الكهولة‏،‏ الشيخوخة ثم الوفاة‏ ـ،‏ وكما أن لأقرب النجوم إلينا‏ (‏وهي شمسنا‏)‏ توابع من الكواكب والكويكبات‏،‏ والأقمار‏،‏ وغيرها فإن القياس يقتضي أن للنجوم الأخرى توابع قد اكتشف عدد منها بالفعل‏،‏ ويبقى الكثير مما لم يتم اكتشافه بعد‏ .‏

ثالثا‏ًً :‏ تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الكون الشاسع الاتساع‏،‏ الدقيق البناء‏،‏ المُحكَم الحركة‏،‏ والمُنضبِط في كل أمر من أموره‏،‏ والثابت في سننه وقوانينه‏،‏ قد خلقه الله ـ‏ تعالى‏ ـ بعلمه وحكمته وقدرته‏،‏ وهو‏ ـ‏ سبحانه‏ ـ‏ الذي يحفظه من الزوال والانهيار‏،‏ وهو القادر على كل شيء‏ . والجزء المدرك لنا من هذا الكون شاسع الاتساع بصورة لا يكاد عقل الإنسان إدراكها‏ (‏إذ المسافات فيه تقدر ببلايين السنين الضوئية‏)،‏ وهو مُستمِر في الاتساع اليوم وإلى ما شاء الله‏،‏ والتعبير القرآني : " وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ " يشير إلى تلك السعة المُذهِلة‏،‏ كما يشير إلى حقيقة توسع هذا الكون باستمرار إلى ما شاء الله‏،‏ وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الثلاثة الأولي من القرن العشرين‏،‏ حين ثبت لعلماء كلٍ من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا‏،‏ وتقترب أحيانا من سرعة الضوء‏ ـ المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية .‏

والمجرات من حولنا تتراجع مُتباعِدة عنا‏،‏ وقد أدرك العلماء تلك الحقيقة من ظاهرة انزياح الموجات الطيفية للضوء الصادر عن نجوم المجرات الخارجة عنا في اتجاه الطيف الأحمر‏ ـ الزحزحة إلى الطيف الأحمر‏،‏ أو حتى دون الطيف الأحمر أحيانا ـ،‏ وقد أمكن قياس سرعة تحرك تلك المجرات في تراجعها عنا من خلال قياس خطوط الطيف لعدد من النجوم في تلك المجرات‏،‏ وثبت أنها تتراوح بين ‏60،000‏ كيلومتر في الثانية‏،‏ و ‏272،000‏ كيلومتر في الثانية‏ .‏

وقد وجد العلماء أن مقدار الحيود في أطياف النجوم إلى الطيف الأحمر‏ ـ‏ أو حتى دون الأحمر في بعض الأحيان‏ ـ،‏ يعبر عن سرعة ابتعاد تلك النجوم عنا‏،‏ وأن هذه السرعة ذاتها يمكن استخدامها مقياساً لأبعاد تلك النجوم عنا‏ .‏

رابعاً ‏:‏ تشير ظاهرة توسع الكون إلى تخلق كلٍ من المادة والطاقة‏،‏ لتملئا المساحات الناتجة عن هذا التوسع‏،‏ وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات مُتفاوِتة‏،‏ ولكنها مُتصِلة بغير انقطاع‏،‏ فلا يوجد فيه مكان بلا زمان‏،‏ كما لا يوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة‏،‏ ولا يستطيع العلم حتى يومنا هذا‏،‏ أن يحدد مصدر كلٍ من المادة والطاقة اللتين تملئان المساحات الناتجة عن تمدد الكون‏،‏ بتلك السرعات المُذهِلة‏،‏ ولا تأويل لها إلا الخلق من العدم‏ .‏

خامساً ‏:‏ أدى إثبات توسع الكون إلى التصور الصحيح بأننا إذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن‏،‏ فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كلٌ من المكان والزمان في نقطة واحدة‏،‏ وأدى ذلك إلى الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من نقطة واحدة بعملية انفجار عظيم‏،‏ وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية‏،‏ وكل ما له بداية فلابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية‏،‏ كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم‏،‏ لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كلٍ من المادة والطاقة بطريقة مستمرة ـ من حيث لا يدرك العلماء ـ وذلك ليملئا‏ـ‏ في التو والحال‏ ـ المسافات الناشئة عن عملية تباعد المجرات عن بعضها البعض بسرعات مُذهِلة‏،‏ وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوى متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم‏،‏ وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب على هجر معتقداتهم الخاطئة عن ثبات الكون‏،‏ والتي دافعوا طويلا عنها‏،‏ انطلاقاً من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته‏،‏ لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق‏ سبحانه وتعالى  .

هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون‏،‏ وكيفية خلقه‏،‏ وإبداع صنعه‏،‏ وحتمية نهايته‏،‏ أمكن الوصول إليها من ملاحظة توسع الكون‏،‏ وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين‏،‏ ودار حولها الجدل حتى سلَّم بها أهل العلم أخيراً‏،‏ وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرناً أو يزيد‏،‏ ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدراً لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق ـ‏ تبارك وتعالى‏ ـ،‏ فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته‏،‏ والذي أنزل لنا في خاتم كتبه‏،‏ وعلى خاتم أنبيائه ورسله‏ ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏ عدداً من حقائق الكون الثابتة‏،‏ ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال ـ عز من قائل‏ ـ :‏ " وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ " (الذاريات‏:47)‏ لتبقى هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية‏،‏ شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله‏،‏ وأن سيدنا ونبينا محمدا‏ ـ صلى الله عليه وسلم‏ ـ‏ كان موصولاً بالوحي‏،‏ مُعلَّماً من قبل خالق السماوات والأرض‏،‏ وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة إلى قيام الساعة‏ .‏

إرسال تعليق