اخر الاخبار

breaking/مقالات الدكتور/9
مقالات الدكتور

11:09 ص

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 21 أكتوبر 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم" 

فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون‏
هذ الايه الكريمه جاءت في خواتيم سوره المعارج‏، وهي سوره مكيه‏، وعدد اياتها اربع واربعون بعد البسمله‏، وقد سميت بهذا الاسم لورود وصف من اوصاف الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيها يصف به ربنا‏(‏ تبارك اسمه‏)‏ ذاته العليه بوصف‏(‏ ذي المعارج‏)‏ اي ذي العلو والرفعه‏، لان المعارج هي المصاعد والمدارج التي يرتقي بها الي الاعلي‏، جمع معرج‏(‏ بفتح الميم وكسرها‏);‏ والقران الكريم يسمي الحركه في السماء دوما بالعروج‏، ومنها معراج رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
وعن اسباب نزول هذه السوره المباركه يروي عن ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ قوله بان احد كفار قريش‏(‏ وكان اسمه النضر بن الحارث‏)‏ حين سمع تحذير رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من عذاب الله‏(‏ تعالي‏)‏ قال مستكبرا قولته الخبيثه التي سجلها عليه القران الكريم في سوره الانفال‏، بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ واذ قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجاره من السماء او ائتنا بعذاب اليم‏*(‏ الانفال‏:32)‏
فانزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ رده الحق في مطلع سوره المعارج التي استهلها بقوله العزيز‏:‏
سال سائل بعذاب واقع‏*‏ للكافرين ليس له دافع‏*‏ من الله ذي المعارج‏*‏ تعرج الملائكه والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنه‏*(‏ المعارج‏:1‏ ‏4).‏
ويدور المحور الرئيسي لسوره المعارج حول حقيقه الاخره‏، ومايصاحبها من بعث‏، وحساب‏، وجزاء‏، يعقبه الخلود في حياه ابديه قادمه اما في الجنه او في الناركما يدور حول صعوبه استيعاب الكفار والمشركين لامكانيه البعث انطلاقا من انكارهم لوجود الله‏، او من تشويه مفهوم الالوهيه لديهم في عدد من المعتقدات الفاسده والرائجه عندهم‏...!!‏
وتبدا السوره الكريمه باستنكار هذا الموقف المستهترالذي وقفه احد كفار قريش مستهينا بالاخره وعذابها‏، فدعا بنزول العذاب علي نفسه وعلي قومه‏، فنزل عذاب الله فورا به وبهم‏، فقد هلك هذا الكافر في يوم بدر‏، ونزلت الهزيمه المنكره بقومه يومها‏.‏ وتاكيدا علي طلاقه القدره الالهيه تصف الايات بعد ذلك حركه كل من الروح والملائكه في السماء بالعروج الي الله ذي المعارج‏، وان كانت طبيعه كل من الملائكه والروح من الامور الغائبه عن علم الانسان وادراكه غيبه مطلقه‏، الا ان الايات تشير الي ان مثل هذا العروج يتم في يوم كان مقداره خمسين الف سنه‏.‏
وبعد ذلك توصي الايات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالصبر الجميل امام انكار الكافرين في زمانه لبعثته الشريفه‏، ولما جاء به من الحق‏، والوصيه مستمره الي زماننا وحتي قيام الساعه توصي اتباع هذا النبي والرسول الخاتم بالصبر الجميل امام كفر الكافرين‏، وشرك المشركين‏، واصرارهم علي انكار بعثه خاتم المرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)، وانكار مابعث به من دين خاتم‏.‏
وتوكد الايات في سوره المعارج ان الكافرين يرون يوم القيامه بعيدا‏، ويراه ربنا قريبا لان يوما عنده بخمسين الف سنه مما نعد نحن اهل الارض‏;‏ والزمن من خلق الله‏، والمخلوق لايحد الخالق ابدا‏...!!‏
وبعد ذلك تبدا الايات في استعراض جانب من اهوال يوم القيامه التي يصفها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏:‏
يوم تكون السماء كالمهل‏*‏ وتكون الجبال كالعهن‏*‏ ولايسال حميم حميما‏*‏ ‏(‏ المعارج‏:8‏ ‏.1)‏
اي يوم تنهار السماء فتكون كالرصاص المصهور‏;‏ وتتطاير الجبال فتكون كالصوف المندوف المنفوش‏، او المصبوغ بالالوان‏، اشاره الي احتفاظ مكونات الجبال بالوان صخورها رغم نسفها وتدميرها‏...!!‏ وساعتها لايملك الانسان السوال عن اقرب الناس اليه‏، واحبهم الي قلبه‏، وذلك من هول الفزع‏، علي الرغم من رويه بعضهم بعضا‏، وتعرف بعضهم علي بعض‏، وذلك لانشغال كل واحد منهم بنفسه‏، وتمنيه لو يستطيع ان يفديها من عذاب يومئذ ببنيه‏، وصاحبته واخيه‏، وعشيرته التي ينتمي اليها‏، وبجميع من في الارض من الخلق‏، ولكن هيهات ان يكون له ذلك‏...!!‏ وهنا ياتي رد الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏ كلا انها لظي‏*‏ نزاعه للشوي‏*‏ تدعو من ادبر وتولي‏*‏ وجمع فاوعي‏* ‏(‏ المعارج‏:15‏ ‏18).‏
و‏(‏كلا‏)‏ في العربيه اداه زجر وردع‏، ولذلك تاتي الايات من بعدها بشيء من اوصاف جهنم‏(‏ اعاذنا الله تعالي منها‏)، ومن ذلك ان نيرانها تشتعل بلهب خالص‏(‏ وهو اللظي‏)، وانها تنزع بشده حرها جوارح المعذبين فيها‏، ثم تعاد تلك الجوارح الي مواضعها ليتكرر العذاب‏، وذلك من قبيل الزياده في التنكيل بكل كافر ومشرك وظالم‏، اعرض عن الحق‏، وادار ظهره له‏، وافسد في الارض‏، وتجبر علي الخلق‏، ونسي الاخره ومافيها من حساب‏، وركز علي جمع المال وكنزه‏، وامساكه في اوعيته‏، ولم يود حق الله فيه‏.‏ و‏(‏الشوي‏)‏ جمع‏(‏ شواه‏)‏ وهي من جوارح الانسان مالم يكن مقتلا‏.‏
ثم تعرض سوره المعارج لشيء من طبائع النفس البشريه التي تجزع عند الشده‏، وتبخل وتبطر عند النعمه‏، فتميل الي منع حقوق الفقراء والمساكين‏;‏ ومن هذا الحكم العام تستثني سوره المعارج المصلين‏،(‏ الذين هم علي صلاتهم دائمون‏*‏ والذين في اموالهم حق معلوم‏*‏ للسائل والمحروم‏*‏ والذين يصدقون بيوم الدين‏*‏ والذين هم من عذاب ربهم مشفقون‏*(‏ المعارج‏:23‏ ‏27)‏
فكل عاقل حصيف يسعي جاهدا في هذه الحياه‏، وهو حريص كل الحرص علي اجتناب كل عمل يستوجب غضب الله وعذابه‏، وكل انسان عفيف يستعف نفسه عن محارم الله‏، لان الخوض فيها اعتداء علي اوامر الله‏، وتجاوز لحدوده‏.‏
وعقبت السوره الكريمه بشيء من صفات المومنين ومنها مراعاه الامانات وحفظ العهود‏، والقيام بشهاده الحق مهما كلفهم ذلك من ثمن‏، والمحافظه علي الصلاه مهما كانت الظروف والملابسات‏، وتوكد سوره المعارج ان هولاء هم الذين سوف يكرمهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بادخالهم الي جنات النعيم‏، خالدين فيها ابدا‏، وفيها ما لا عين رات‏، ولا اذن سمعت ولاخطر علي قلب بشر‏...!!‏
ثم تنتقل السوره بسوال استنكاري عن الكفار والمشركين الذين كانوا يتسارعون الي التجمهر حول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن اليمين وعن الشمال يستمعون اليه دون ان يومنوا به‏، ويدفعهم الغرور والتطاول الي الادعاء الباطل بانهم اولي بالجنه من اصحابه الذين امنوا به‏، وايدوه‏..، ونصروه‏، وياتي الرد الالهي عليهم بهذا الاستفهام التوبيخي الاستنكاري الذي يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ايطمع كل امريء منهم ان يدخل جنه نعيم‏*(‏ المعارج‏:38)‏
ويزيدهم‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ تقريعا بقوله‏(‏ عز من قائل‏)‏ كلا اي ليس الامر ابدا كما يطمعون‏، فليس لهم ايمان او عمل صالح يوهلهم لدخول الجنه‏، وهو‏(‏ تعالي‏)‏ عليم بخلقهم‏، ولذلك يقسم بذاته العليه انه قادر علي اهلاكهم وعلي استبدالهم بمن هم خير منهم فيقول‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏ فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون‏*‏ علي ان نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين‏*‏ ‏(‏ المعارج‏:40‏ ‏41)‏
وتختتم السوره الكريمه بامر من الله‏(‏ تعالي‏)‏ الي خاتم انبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ان يدع هولاء الكافرين والمشركين يخوضون في باطلهم‏، يلهون ويلعبون حتي يلاقوا يومهم الذي وعدهم الله اياه وتوعدهم به فيقول‏(‏ سبحانه‏):‏ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون‏*‏ يوم يخرجون من الاجداث سراعا كانهم الي نصب يوفضون‏*‏ خاشعه ابصارهم ترهقهم ذله ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون‏*‏ ‏(‏ المعارج‏:42‏ ‏44)‏

الايات الكونيه التي استشهدت بها سوره المعارج
استشهدت سوره المعارج علي صدق ما جاء بها من امور الغيب المطلق بالعديد من الايات الكونيه الشاهده لله‏(‏ تعالي‏)‏ بطلاقه القدره علي ابداع الخلق‏، وعلي افنائه واعاده خلقه من جديد‏، ومن هذه الايات مايلي‏:‏
‏(1)‏ وصف الحركه في السماء بالعروج‏، وان كلا من الملائكه والروح تعرج الي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي وصف ذاته بالوصف‏(‏ ذي المعارج‏).‏ والعروج بمعني ارتفاع وتحرك كل شيء في صفحه السماء في خطوط متعرجه هو حقيقه علميه لم تدرك الا في اواخر القرن العشرين‏.‏
‏(2)‏ التعبير القراني المعجز الذي يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
تعرج الملائكه والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنه‏*‏ فيه اشاره الي سرعات فائقه في الكون‏، وتاكيد علي تواصل كل من المكان والزمان‏، وعلي تعاظم ابعاد الكون‏، والي نسبيه كل شيء في العلم الكسبي للانسان بحكم نسبيه مكانه من الكون‏، وزمانه‏(‏ اي عمره‏)‏ ونسبيه كل حواسه وقدرات عقله‏(‏ اي محدوديتها‏)، والنسبيه لم تدركها معارف الانسان الا في مطلع القرن العشرين‏.‏
‏(3)‏ وصف السماء بانها سوف تكون يوم القيامه كالمهل‏.‏
‏(4)‏ وصف الجبال بانها سوف تكون يوم القيامه كالعهن‏.‏
‏(5)‏ وصف طبيعه النفس البشريه عامه بالهلع والجزع عند وقوع الشر‏، وبالبطر والشح عند نزول النعمه‏، الا المصلين‏.‏
‏(6)‏ القسم بالمشارق والمغارب‏، وفيه اشاره ضمنيه رقيقه الي كل من كرويه الارض ودورانها حول محورها امام الشمس‏، والي كرويه كل اجرام السماء ودورانها حول محاورها‏، وجريها في مداراتها‏، فلولا ذلك ماتعددت المشارق والمغارب ابدا‏.‏
‏(7)‏ الاشاره الي خلق الانسان من ماء مهين‏.‏
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه خاصه‏، ولذا فسوف اقصر حديثي هنا علي النقطه السادسه في القائمه السابقه والمتعلقه بتعدد المشارق والمغارب‏، ودلالاتها العلميه‏، وقبل مناقشه ذلك لابد من استعراض سريع لاقوال عدد من كبار المفسرين من القدامي والمعاصرين في شرح هذه الايه الكريمه‏.‏

من اقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏ فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون‏*‏ علي ان نبدل خيرا منهم ومانحن بمسبوقين‏*(‏ المعارج‏:40‏ ‏41)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ مانصه‏:...‏ ثم قال تعالي‏:(‏ فلا اقسم برب المشارق والمغارب‏)‏ اي الذي خلق السماوات والارض‏، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها‏(‏ انا لقادرون علي ان نبدل خيرا منهم‏)‏ اي يوم القيامه نعيدهم بابدان خير من هذه فان قدرته صالحه لذلك‏،(‏ وما نحن بمسبوقين‏)‏ اي بعاجزين‏....‏ واختار ابن جرير‏(‏ علي ان نبدل خيرا منهم‏)‏ اي امه تطيعنا ولا تعصينا‏...‏ والمعني الاول اظهر لدلاله الايات الاخر عليه‏، والله سبحانه وتعالي اعلم‏....‏
‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما نصه‏:(‏ فلا‏)‏ لا زائده‏[‏ لتاكيد القسم‏](‏ اقسم برب المشارق والمغارب‏)‏ للشمس والقمر‏، وسائر الكواكب‏(‏ انا لقادرون‏)(‏ علي ان نبدل‏)‏ ناتي بدلهم‏(‏ خيرا منهم ومانحن بمسبوقين‏)‏ بعاجزين عن ذلك‏.‏
‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ مانصه‏:‏ والامر ليس في حاجه الي قسم‏، ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب يوحي بعظمه الخالق‏.‏ والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيره ومغاربها في هذا الكون الفسيح كما انها تعني المشارق والمغارب المتواليه علي بقاع الارض‏، وهي تتوالي في كل لحظه‏، ففي كل لحظه اثناء دوران الارض حول نفسها امام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب‏...‏ وايا كان مدلول المشارق والمغارب فهو يوحي الي القلب بضخامه هذا الوجود‏، وبعظمه الخالق لهذا الوجود‏.‏ فهل يحتاج امر اولئك المخلوقين مما يعلمون الي قسم برب المشارق والمغارب علي انه سبحانه قادر علي ان يخلق خيرا منهم وانهم لايسبقونه ولايفوتونه ولايهربون من مصيرهم المحتوم؟‏.‏
‏*‏ وجاء في صفوه البيان لمعاني القران‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ مانصه‏:‏
اقسم‏، و‏(‏لا‏)‏ مزيده‏...‏ والمشارق والمغارب‏:‏ مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها‏.(‏ وما نحن بمسبوقين‏)‏ اي بمغلوبين‏، او عاجزين عن ان ناتي بقوم اخرين خير منهم
‏*‏ وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ مانصه‏:‏
فلا اقسم برب المشارق والمغارب من الايام والكواكب والهدايات‏، انا لقادرون علي ان نهلكهم وناتي بمن هو اطوع منهم لله‏، ومانحن بعاجزين عن هذا التبديل‏.‏
وجاء في الهامش مايلي‏:‏ قد يكون المراد بالمشارق والمغارب اقطار ملك الله علي سعته التي لاتحد كما اشير في الايه‏127‏ من سوره الاعراف‏.‏
واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها‏، للدلاله علي ارجاء الارض المشار اليها‏.‏
وقد يكون المراد ايضا مشارق الشمس والقمر وكافه النجوم والكواكب ومغاربها جميعا للدلاله ايضا علي ملك الله كله‏.‏ وترجع ظاهره شروق الاجرام السماويه وغروبها الي دوران الارض حول محورها من الغرب نحو الشرق ومن ثم تبدو لنا تلك الاجرام متحركه في قبه السماء علي عكس ذلك الاتجاه مشرقه علي الافق الشرقي وغاربه من الافق الغربي‏، او علي الاقل دائره من المشرق الي المغرب حول النجم القطبي في نصف الكره الشمالي مثلا واذا كان البعد القطبي للنجم اصغر من عرض مكان الراصد فالنجم لايشرق ولايغرب بل يرسم دائره صغيره وهميه حول القطب الشمالي‏، وبذلك تشير الايه كذلك الي ساعات الليل راجع قوله تعالي‏:‏ وعلامات وبالنجم هم يهتدون‏.‏
وظاهره الشروق والغروب اشاره اذن الي دوران كره الارض‏، وهي نعمه كبري من نعم الله علي احياء هذا الكوكب‏، فلولا دوران الارض حول محورها لتعرض نصفها لضوء الشمس مده نصف سنه وحرم من الضوء تماما النصف الاخر‏، وهذا مالا تستقيم معه الحياه كما نعهدها‏.‏
واذا اقتصرنا عند ذكر المشارق والمغارب علي تدبير الشمس وحدها دون سائر النجوم والكواكب‏، كانت هذه اشاره الي التعدد اللانهائي لمشارق الارض ومغاربها يوما بعد يوم في كل موضع علي سطح الارض‏، او حتي في لحظه من لحظات الزمان تمر علي الكره الارضيه‏، فالشمس في كل لحظه غاربه عند نقطه ومشرقه في نقطه اخري تقابلها‏.‏ وهذا من محكم تدبير الله واعجاز قدرته‏....‏
‏*‏ وجاء في صفوه التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبه خيرا‏)‏ مانصه‏:‏ اي فاقسم برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها‏.‏

المشارق والمغارب في القران الكريم
جاء ذكر المشرق والمغرب في القران الكريم بالافراد‏، والتثنيه والجمع في احد عشر موضعا علي النحو التالي‏:‏
اولا‏:‏ بالافراد‏:‏ جاء ذكر المشرق والمغرب في ست ايات قرانيه كريمه هي كما يلي‏:‏
‏1‏ ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله ان الله واسع عليم‏*(‏ البقره‏:115)‏
‏2‏ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء الي صراط مستقيم‏*‏ ‏(‏البقره‏:142)‏
‏3‏ ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليوم الاخر والملائكه والكتاب والنبيين‏...*(‏ البقره‏177)‏
‏4‏ ‏...‏ قال ابراهيم فان الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين‏*(‏ البقره‏:258)‏
‏5‏ قال رب المشرق والمغرب ومابينهما ان كنتم تعقلون‏*(‏ الشعراء‏:28)‏
‏6‏ رب المشرق والمغرب لا اله الا هو فاتخذه وكيلا‏*(‏ المزمل‏:9)‏
ثانيا‏:‏ وجاء ذكر المشرقين او ذكر المشرقين والمغربين مرتين في كتاب الله علي النحو التالي‏:‏
‏1‏ حتي اذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين‏*(‏ الزخرف‏:38)‏
‏2‏ رب المشرقين ورب المغربين‏*‏ ‏(‏ الرحمن‏:17)‏
ثالثا‏:‏ وجاء ذكر المشارق وحدها مره وذكر المشارق والمغارب مرتين في كتاب الله علي النحو التالي‏:‏
‏1‏ رب السموات والارض ومابينهما ورب المشارق‏*(‏ الصافات‏5)‏
‏2‏ واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها‏....*(‏ الاعراف‏:137)‏
‏3‏ فلا اقسم برب المشارق والمغارب انا لقادرون‏(‏ المعارج‏40)‏
وهنا ثار تساول المفسرين عن سبب ذكر المشرق والمغرب بالافراد‏، والمشرقين والمغربين بالتثنيه‏، والمشارق والمغارب بالجمع وتعددت اجاباتهم‏، ومن هنا كانت ضروره توظيف الحقائق العلميه التي توفرت في زماننا حتي يمكن فهم دلاله هذه الايات الكريمه بشكل اعمق‏.‏

المدلول العلمي للايه الكريمه
بما ان المخاطبين بالقران الكريم هم اهل الارض جميعا‏، فمن المنطقي ان يكون المقصود بالتعبير القراني رب المشارق والمغارب هو مشارق الارض ومغاربها‏;‏ ولكن بما ان القران الكريم هو كلام الله الخالق الذي له ملك السماوات والارض ومابينهما‏، فان دلاله الايه الكريمه تتسع لتشمل مشارق ومغارب كل اجرام السماء‏، وعلي ذلك فلابد من فهم دلاله الايه الكريمه في هذين الاطارين علي النحو التالي‏:‏
اولها‏:‏ المشارق والمغارب بالنسبه الي الارض‏:‏
‏(1)‏ مشرق الارض ومغربها‏:‏
علي الرغم من ان كل ما في صفحه السماء من اجرام يدور حول محوره‏، ويسبح جاريا في مداره الا ان النجم القطبي يبدو ثابتا في مكانه بالنسبه للارض‏، ولايشترك في الدوران الظاهري لقبه السماء وما بها من نجوم‏، والناتج عن دوران الارض حول محورها من الغرب الي الشرق دوره كامله في كل اربع وعشرين ساعه‏(‏ في زماننا الراهن‏).‏ والسبب في ذلك هو ان النجم القطبي يقع علي امتداد محور دوران الارض حول نفسها تماما‏، وبذلك يحدد لنا اتجاه الشمال الحقيقي‏(‏ والمعروف باسم الشمالي الجغرافي‏);‏ ويتعامد علي هذا الاتجاه يمينا شرق الارض‏.‏ ويسارا غربها اي اتجاه الشرق الحقيقي والغرب الحقيقي بالنسبه للارض ككوكب‏، ويتضح من ذلك جانب من جوانب الحكمه الالهيه المبدعه بخلق هذه العلاقه حتي يبقي النجم القطبي بمثابه البوصله الكونيه المعلقه في السماء الدنيا لارشاد اهل الارض الي الاتجاهات الاربعه الاصليه‏، وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وعلامات وبالنجم هم يهتدون‏*‏ ‏(‏ النحل‏:16)‏
ويقول‏:‏ رب المشرق والمغرب لا اله الا هو فاتخذه وكيلا‏*(‏ المزمل‏:9)‏
‏(2)‏ مشارق الارض ومغاربها‏:‏
بدوران الارض حول محورها دوره كامله كل اربع وعشرين ساعه‏(‏ في زماننا الراهن‏)‏ يتحدد يوم الارض الذي يتقاسمه الليل والنهار‏.‏ وبدوران القمر دوره كامله حول محوره‏، وحول الارض في مده تقدر بحوالي‏29،5‏ يوما يتحدد شهر الارض القمري الذي يمكن تقسيمه الي ايام واسابيع بتتابع مراحل شكل القمر من الميلاد الي المحاق‏.‏ ويتم القمر اثنتي عشره دوره كامله حول الارض في كل دوره كامله للارض حول الشمس تقريبا وبذلك يتحدد طول السنه القمريه بحوالي‏354‏ يوما‏، وتقسم الي اثني عشر شهرا قمريا محددا‏.‏
وسبح كل من الارض وقمرها حول الشمس في مدار محدد ليتما دوره كامله في مده تقدر بحوالي‏(365،25)‏ يوما تتحدد السنه الشمسيه للارض‏، وهي تزيد علي السنه القمريه بحوالي‏11‏ يوما‏.‏
وبسبب ميل محور دوران الارض علي الخط الواصل بين مركزي الارض والشمس تتبادل السنه الشمسيه فصول اربعه هي الربيع والصيف والخريف والشتاء‏.‏ وبواسطه تتابع بروج السماء التي تمر بها الارض في اثناء سبحها في مدارها حول الشمس يمكن تقسيم السنه الشمسيه الي شهورها الاثني عشر‏.‏
وكان قدماء المصريين قد قدروا السنه الشمسيه بحوالي‏365‏ يوما‏، وتلاهم البابليون في الربط بين محيط الدائره الذي يبلغ‏360‏ درجه‏، وبين عدد ايام السنه الشمسيه‏، وشكل هذا الربط اساس تقسيمات الساعه الي‏60‏ دقيقه‏، والدقيقه الي‏60‏ ثانيه‏.‏
وكانت ملاحظه تغير المواقع الظاهريه للشمس بالنهار بين شروقها وغروبها وسيله من وسائل ادراك مرور الزمن وتتبع حركته‏.‏
وبفعل دوران الارض حول محورها دوره كامله كل اربع وعشرين ساعه‏، فان مساحه نصف الكره الارضيه المغمور بنور النهار تتناقص من احد طرفيها بولوجه في ظلمه الليل‏، وتتزايد بنفس القدر من الطرف الاخر الذي يخرج من ظلمه الليل الي نور النهار‏، ويستمر الحال كذلك في تبادل بطيء حتي يعم نور النهار نصف الارض الذي كان مظلما‏، ويعم ظلام الليل نصفها الذي كان منيرا‏، ومن هنا تتعدد المشارق والمغارب علي خط العرض الواحد‏، ويتاخر شروق الشمس كلما اتجهنا الي الغرب‏.‏ ولما كانت الارض تدور حول محورها دوره كامله اي‏(360)‏ درجه كل‏24‏ ساعه‏، فان ضوء الشمس ينتقل‏15‏ درجه من درجات خطوط الطول في الساعه الواحده من الشرق الي الغرب‏، اي بمعدل‏4‏ دقائق لخط الطول الواحد‏;‏ ومعني ذلك ان الفرق الزمني الناشيء عن اختلاف خطوط الطول علي خط العرض الواحد يقدر باربع دقائق لكل درجه من درجات خطوط الطول‏، ويضاف هذا الفرق اذا كان الموقع في نصف الارض الشرقي‏، ويطرح اذا كان في نصفها الغربي‏.‏ ويعتبر خط الطول‏(180)‏ هو الخط العالمي للتاريخ‏، وباجتيازه من الشرق الي الغرب يتاخر الزمن يوما كاملا‏;‏ ويتعرج الخط العالمي للتاريخ شرقا وغربا عبر خط طول‏(180)‏ وذلك بتاثير خطوط العرض‏، ويمر من مضيق بيرنج شمالا الي شرق جزيره نيوزيلندا جنوبا‏.‏
ويتغير الزمن من موقع لاخر علي طول خط الاستواء بسبب الانتقال من خط طول الي خط طول اخر بعد اربع دقائق‏، اما الاختلاف في الزمن وبالتالي في لحظتي شروق الشمس وغروبها عند الانتقال من خط الاستواء الي خطوط العرض شمالا وجنوبا فهو اكبر من الانتقال علي خط العرض الواحد وذلك لان الانتقال عبر خطوط العرض له ابلغ الاثر علي زمني شروق وغروب الشمس‏، وهذا الاثر ليس ثابتا علي مر الايام بسبب ميل محور دوران الارض‏، كما انه لايتناسب تناسبا طرديا مع فروق خطوط العرض‏، ويتضح ذلك من ان مقدار الفرق الزمني لكل من شروق وغروب الشمس بين خطي العرض‏50‏ و‏60‏ درجه شمالا اكبر باضعاف كثيره من مقدار الفرق الزمني بين خطي عرض‏10‏ و‏20‏ شمالا‏.‏
اضف الي ذلك ان هذه الفروق غير ثابته علي مدار السنه مما يعدد مشارق الارض ومغاربها الي ارقام لاتكاد تدرك‏.‏
والفروق بين ازمنه الشروق والغروب في نفس اليوم عند موقعين علي خط طول واحد ولكنهما علي خطي عرض مختلفين هي اقل من الفروق بين موقعين بينهما نفس القيمه في مقدار خطي العرض‏، بينما يقعان علي خطي طول مختلفين‏.‏
كذلك اذا حسبنا زمني شروق وغروب الشمس في المكان الواحد من سطح الارض علي مدار السنه‏، فاننا نجدهما يتغيران تغيرا كبيرا خاصه عند خطوط العرض العليا‏.‏ فالمكان الواحد علي سطح الارض له مشارق ومغارب عديده علي مدار السنه‏.‏
والحركه الظاهريه للشمس في مستوي دائره البروج توثر في مقدار الميل الاستوائي لها‏، وتجعله يتغير من يوم الي يوم اخر‏;‏ والميل الاستوائي له تاثير كبير في تحديد مكان وزمان لحظتي الشروق والغروب للشمس‏، ويزداد ذلك بزياده قيم خطوط العرض‏.‏
وقد تتحد نقاط علي خطوط طول وعرض مختلفه في لحظتي الشروق والغروب‏، والخطوط الواصله بينها تعرف باسم خطوط اتحاد المطالع او خطوط اتحاد المغارب‏، وهذه الخطوط يختلف شكلها من يوم الي اخر‏:‏ وهي في اليوم الواحد تكون موازيه لبعضها البعض‏.‏
في‏3/21‏ من كل عام يقع الاعتدال الربيعي‏، وفي‏9/23‏ يقع الاعتدال الخريفي في نصف الكره الشمالي فيتساوي الليل والنهار لتعامد اشعه الشمس علي خط الاستواء‏.‏
وفي‏6/21‏ من كل عام يقع الانقلاب الصيفي في نصف الكره الشمالي لتعامد اشعه الشمس علي مدار السرطان‏، ويكون النهار اطول نهار في السنه وتتمتع المنطقه الواقعه حول القطب الشمالي بنهار يدوم‏24‏ ساعه‏، ويحل ليل مدته‏24‏ ساعه علي المناطق الواقعه حول القطب الجنوبي‏.‏
ويكون النهار اقصر مايكون في نصف الكره الجنوبي في‏6/21‏ اما عند خط الاستواء فيتساوي طول كل من الليل والنهار علي مدار السنه‏.‏
في‏12/22‏ من كل عام يقع الانقلاب الشتوي في نصف الكره الشمالي حيث تتعامد اشعه الشمس علي مدار الجدي‏، وتتمتع المنطقه حول القطب الجنوبي بنهار يدوم‏24‏ ساعه بينما تتمتع المنطقه حول القطب الشمالي بليل يدوم‏24‏ ساعه كامله‏.‏
من هذا الاستعراض يتضح تعدد المشارق والمغارب بتبادل الايام والفصول علي الموقع الواحد في كل سنه‏، وبتعدد المواقع علي خط العرض الواحد مع تعدد خطوط الطول‏، وعلي خط الطول الواحد يتعدد خطوط العرض وبتعدد كل ذلك تتعدد المشارق والمغارب تعددا مذهلا فسبحان القائل رب المشارق والمغارب‏.‏
‏3‏ مشرقا الارض ومغرباها‏:‏
نتيجه لدوران الارض حول محورها انبعجت قليلا عند خط الاستواء‏، وتفلطحت قليلا عند القطبين‏، ونتيجه لذلك اصبح لكل من المشارق والمغارب العديده نهايتان تمثلان اقصي زمانين ومكانين لكل من شروق الشمس وغروبها علي اقصي بقعتين من بقاع الارض تمثل كل منهما مره اقصي الشروق‏، ومره اقصي الغروب‏، ومن هنا كان للارض مشرقان ومغربان وسبحان القائل‏'‏ رب المشرقين ورب المغربين
ثانيا‏:‏ المشارق والمغارب بالنسبه لباقي اجرام السماء‏:‏
من الواضح ان الموثرات السابقه كلها علي زمني ومكاني شروق وغروب الشمس تشترك في التاثير علي زمني ومكاني شروق وغروب القمر‏، ويزيد عليهما بالنسبه للقمر عامل اخر هو مقدار خط عرض القمر السماوي‏، وهو يتغير في حدود‏5‏ درجات تقريبا ايجابا وسلبا‏، وعندما يكون خط العرض السماوي للقمر صفرا فانه يتحد في غروبه مع الشمس‏، وبذلك يكون للقمر العديد من المشارق والمغارب كما يكون له مشرق ومغرب‏، ونهايتان لكل من شروقه وغروبه‏، وكذلك الحال مع بقيه اجرام السماء والتي نتيجه لتكورها ولدورانها حول محاورها‏، ولسبحها حول اجرام اكبر فان مشارقها ومغاربها تتعدد تعددا كبيرا‏، مع وجود نهايتين عظميين لكل من الشروق والغروب‏، ووجود اتجاهات اصليه لكل جرم سماوي تحدد له شرقه وغربه‏.‏
من هنا جاءت الاشاره في كتاب الله الي كل من المشرق والمغرب بالافراد وبالمثني وبالجمع تاكيدا علي العديد من حقائق الارض وحقائق اجرام السماء‏، وهي حقائق لم تدرك الا في زمن العلم الذي نعيشه‏، فسبحان الذي انزل القران الكريم بعلمه‏، علي خاتم انبيائه ورسله‏، وتعهد لنا بحفظه فحفظه لنا بنفس لغه وحيه‏(‏ اللغه العربيه‏)، وحفظه حفظا كاملا‏:‏ كلمه كلمه وحرفا حرفا بكل اشراقاته الربانيه‏، وحقائقه النورانيه في كل قضيه عرض لها حتي يبقي حجه علي اهل عصرنا من المسلمين وغير المسلمين‏، وشاهدا علي طبيعته الربانيه‏، وعلي صدق نبوه الرسول الخاتم والنبي الخاتم الذي تلقاه فالحمد لله علي نعمه الاسلام‏، والحمدلله علي نعمه القران والحمدلله الي اخر الزمان‏، والصلاه والسلام علي انبياء الله ورسله اجمعين‏، وعلي خاتمهم وامامهم‏:‏ سيد الانبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الامين وعلي اله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين‏.‏

إرسال تعليق