بقلم الدكتور/ زغلول النجار
نشر في جريدة الأهرام تحت عمود "من أسرار القرآن" بتاريخ 4 مارس 2002 ضمن سلسلة "من الآيات الكونية في القرآن الكريم"

هذه الايه الكريمه جاءت في الخمس الاول من سوره فصلت، وهي سوره مكيه، واياتها اربع وخمسون، وقد سميت بهذا الاسم لوصفها القران الكريم في مطلعها بانه كتاب فصلت اياته اي ميزت لفظا ومعني، لتناولها كلام الله وهدايته الي الثقلين باسلوب معجز في بيانه، ونظمه، وبلاغته، ومحتواه لتناوله قضايا الدين بركائزه الاربع الاساسيه: العقيده، والعباده، والاخلاق، والمعاملات.. وهي اما من صميم الغيب المطلق الذي لا سبيل للانسان في الوصول اليه الا ببيان من الله تعالي، بيانا ربانيا خالصا لا يداخله ادني قدر من التصورات البشريه كقضايا العقيده، او هي اوامر ربانيه خالصه كقضايا العباده، والله تعالي يحب ان يعبد بما امر، او هي ضوابط للسلوك والمعاملات، والانسان كان عاجزا دوما عن ان يضع لنفسه بنفسه ضوابط لسلوكه وتشريعات لمعاملاته، ومن هنا كان تميز القران الكريم.
وتبدا سوره فصلت بالحرفين المقطعين حم ولذا تسمي احيانا باسم حم السجده لان بها سجده تلاوه واحده; والحروف المقطعه التي افتتحت بها تسع وعشرون سوره من سور القران الكريم، والتي تضم نصف اسماء حروف الهجاء الثمانيه والعشرين، تعتبر سرا من اسرار القران الكريم التي لا يعلمها الا الله ( تعالي).
وبعد هذا الاستفتاح تحدثت السوره عن الوحي بالقران الكريم ووصفته بانه تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت اياته قرانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا....
وتوكد السوره الكريمه هذه الحقيقه في مقام اخر منها يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): ولو جعلناه قرانا اعجميا لقالوا لولا فصلت اياته... وتشير سوره فصلت الي كتاب الله في عدد من اياتها، موكده انه كلام الله الخالق، الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتشير الي كتاب موسي ( عليه السلام) واختلاف قومه فيه، وتلفت النظر الي ان القران الكريم هو للذين امنوا هدي وشفاء، وهو في اذان الذين لا يومنون به وقر وهو عليهم عمي...!!!
وتتحدث السوره عن مواقف المعرضين عن كتاب الله، وعن انغلاق قلوبهم دون هدايته، ورفض اسماعهم للحق الذي جاء به، وعجز طبائعهم عن موافقه دعوته الي توحيد الله الخالق، والاستقامه علي اوامره، واجتناب نواهيه، والانصياع لتحذيره المتكرر من اخطار الوقوع في الكفر بالله ( تعالي), او الشرك به، او منع شرائعه، وقارنت السوره الكريمه بين الموقف الجاحد لهولاء الكفار والمشركين وما سوف ينالهم يوم القيامه من الويل والثبور، وبين موقف المومنين الذين سوف يعطيهم ربهم اجرا غير ممنون.
وفي محاجه ملجمه للكافرين استشهدت سوره فصلت علي وجود الله( تعالي), وعلي الوهيته، وربوبيته، ووحدانيته، وعلي طلاقه قدرته بخلق الارض في يومين( اي علي مرحلتين); وبخلق الجبال، ومباركه الارض، وتقدير اقواتها فيها في اربعه ايام( اي اربع مراحل) من اجل تهيئتها للعمران، والمرحلتان الاوليان داخلتان في المراحل الاربع التاليه; ثم في مرحلتين تاليتين اتم الله( تعالي) بناء الكون، وجعل السماوات سبعا، وزين السماء الدنيا منها بالنجوم وحفظها بها.
وبعد استعراض هذه الايات الكونيه المبهره تنذر السوره جميع المعرضين عن دين الله، والكافرين به بعقاب من مثل عقاب اقوام عاد وثمود، وعقاب امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس، وفصلت السوره شيئا مما حدث لكل منهم، وكيف نجي الله المتقين من بينهم.
واستشهدت السوره الكريمه ببعض مشاهد العذاب في الاخره، ومن اخطرها ان الله( تعالي) سوف ينطق سمع، وابصار، وجلود اعدائه ليشهدوا عليهم بما كانوا يعملون، وتشير السوره الي ما سوف يدور من حوار بين هولاء الخاطئين وجوارحهم التي تشهد علي جرائمهم...!!!
وتحذر السوره الكريمه الكافرين من الجحود بايات الله، والانصراف عن الاستماع الي القران الكريم، ومحاوله اللغو فيه اذا قرئ عليهم، وتهددهم بعذاب شديد، يوقفهم موقف الندم والاعتذار، ساعه لا ينفع الندم ولا يجدي الاعتذار...!!!
وتتحدث سوره فصلت عن شيء من مبشرات المومنين الذين امنوا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبسيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم) نبيا ورسولا، واستقاموا علي منهج الله بتنزل الملائكه عليهم في الدنيا وفي الاخره، وفي لحظات الموت وسكراته، وحشرجه الصدر وضيقه، مطمئنه اياهم برضا الله عنهم وغفرانه لهم، ورحمته بهم، وبالنعيم الذي ينتظرهم...!!!
وتقارن السوره بين حسن حال المومنين في الدنيا والاخره، وسوء حال الكافرين والمشركين في الدارين، وتتحدث عن شيء من اخلاق الدعاه الي الله، واساليبهم في الدعوه اليه، وتمايز بين الخير والشر، وبين الحسنه والسيئه.
وتثبت الايات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بحقيقه ان ما يقال له من الكافرين والمشركين قد قيل للرسل من قبله; وان الله( تعالي) صاحب المغفره هو في الوقت نفسه ذو عقاب اليم...!!!
وتوكد السوره ان من عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها... وان الله( تعالي) ليس بظلام للعبيد، فهو احكم الحاكمين، واعدل العادلين، وانه( تعالي) يرد اليه علم الساعه، وعلم كل شيء...!!!
وتنتهي السوره الي الحديث عن شيء من طبائع النفس الانسانيه وتختتم بهذا الوعد الالهي القاطع بان الله( تعالي) سوف يكشف للانسان( في مستقبل بعد زمن الوحي) من الحقائق العلميه في افاق الكون وفي دخائل النفس الانسانيه وفي داخل الجسد البشري ما يوكد صدق كل ما جاء في كتاب الله من الاشارات الي الكون ومكوناته وظواهره، والي كل ما يتعلق بالانسان ومراحل خلقه، وبناء جسده، وحديث نفسه، واذا ثبت سبق القران بالاشاره الي تلك الحقائق من قبل ان تصل الي علم الانسان بعدد متطاول من القرون، وثبت صدق القران الكريم في الاشاره اليها بقدر من الدقه والشمول والاحاطه التي لم يصل اليها علم الانسان بعد في زمن التقدم العلمي والتقني المذهل الذي نعيشه... اذا ثبت كل ذلك اصبحت تلك الاشارات الكونيه والانسانيه في كتاب الله من اعظم الايات الداله علي انه الحق، والداله علي صدق حديثه عن الغيب، وعن الدين بركائزه الاساسيه، وصدق اخباره عن الامم السابقه، وعن البعث والحساب والميزان والصراط والجنه والنار، وكان الشك في امكان البعث هو احد الحجج الرئيسيه لكفر الكافرين، واعراضهم عن الايمان بدين الله القويم، ولذلك تختتم السوره بقول الحق( تبارك وتعالي):
سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق اولم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد* الا انهم في مريه من لقاء ربهم الا انه بكل شيء محيط. ( فصلت:54,53).
ومن الايات الكونيه التي استشهدت بها السوره الكريمه علي طلاقه القدره الالهيه: خلق الارض في يومين( اي علي مرحلتين), وخلق الجبال، ومباركه الارض بتهيئتها للعمران، وتقدير اقواتها فيها في اربعه ايام( اي اربع مراحل); واتمام بناء الكون، وجعل السماوات سبعا، والارضين سبعا، وتزيين السماء الدنيا بالنجوم، وجعلها حفظا لها، وتبادل كل من الليل والنهار، وحركه كل من الشمس والقمر، واهتزاز الارض وربوها( اي انتفاخها وارتفاعها الي اعلي) عند انزال الماء عليها، ودلاله ذلك الاحياء للارض علي امكان البعث واحياء الموتي. وكل واحده من هذه القضايا لا يكفيها مقال منفصل، ولذا فانني سوف اقتصر هنا علي قضيه واحده منها الا وهي قضيه تقدير الاقوات في الارض علي اربع مراحل متتاله، وقبل الدخول في هذا الموضوع لابد من التعرض للدلاله اللغويه لالفاظ الايه ولاقوال المفسرين السابقين فيها.
الدلاله اللغويه لالفاظ الايه الكريمه:
(1)( بارك):( البركه) هي ثبوت الخير الالهي في الشيء بنمائه وزيادته بغير اسباب مدركه; و(المبارك) هو ما فيه ذلك الخير الالهي; ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس، وعلي وجه لا يحصي، ولا يحصد قيل لكل ما يشاهد منه زياده غير محسوسه انه( مبارك), وان فيه( بركه); و(بارك) الشيء اي اودع فيه الخير الالهي; ويقال:( بارك) الله لك، وفيك، وعليك، و(باركك) اي اودع خيره فيك; و(تبارك) الله اي اختص تعالي بكل خير; ويقال:( تبرك) بالشيء او بالفرد من البشر اي تيمن به.
(2)( قدر): يقال في العربيه( قدر) او( قدر) الشيء( يقدره)( تقديرا) اي حدد كميته; و(القدر) كميه الشيء او مبلغه، و(مقدار) الشيء للشيء المقدر له او به وقتا كان او زمنا او كيلا هو كميته; يقال:( قدرته) و(قدرته). ويقال:( قدره) اي اعطاه( القدره) وذلك من مثل قولك:( قدرني) الله علي كذا اي قواني عليه; و(تقدير) الله الاشياء علي وجهين: احدهما باعطاء القدره وذلك من مثل قوله( تعالي): فقدرنا فنعم القادرون( المرسلات:23), والثاني بان يجعلها علي مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمه; وذلك من مثل قوله( تعالي): قد جعل الله لكل شيء قدرا( الطلاق:3). وقوله: انا كل شيء خلقناه بقدر ( القمر:49), وقوله:... والله يقدر الليل والنهار علم ان لن تحصوه...( المزمل:20), وقوله: من نطفه خلقه فقدره ( عبس:19), وقوله: والذي قدر فهدي( الاعلي:3).
و(التقدير) من الانسان علي وجهين احدهما: التفكير في الامر بحسب نظر العقل وبناء الامر عليه وذلك محمود; والثاني ان يكون بحسب التمني والشهوه وذلك مذموم يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): انه فكر وقدر فقتل كيف قدر (المدثر:19,18).
(3)( اقوات):( القوت) هو كل ما( يقتات) به او ما يمسك الرمق اي ما يقوم به بدن الانسان( وغيره من الكائنات الحيه) من الطعام، وجمعه( اقوات); وفعله( قات) او( قوت); فيقال:( قاته)( يقوته)( قوتا) اي اطعمه قوته; و(اقاته)( يقيته)( قوتا) اي جعل له ما يقوته; و(استقاته)( يستقيته)( استقاته) اي ساله( القوت); ويقال:( قته)( فاقتات); وهو( يتقوت) بكذا او( يقتات) علي كذا.
كذلك يقال:( اقات) علي الشيء اقتدر عليه; و(المقيت) هو القائم علي الشيء يحفظه ويقيته، وقد يقصد به المقتدر والحافظ والشاهد، و(المقيت) من اسماء الله الحسني ومن معانيه خالق الاقوات وموزعها علي الخلائق.
(4)( ايام):( اليوم) في العربيه وجمعه( ايام) الفتره من طلوع الشمس الي غروبها او ما يعبر عنه بالنهار وهو فتره النور بين ليلين متتاليين; وقد يعبر بلفظه( اليوم) عن فترتي النهار والليل معا وهو ما يعرف ( باليوم الكامل) او بيوم الارض الشمسي ويمثل الفتره التي تتم فيها الارض دوره كامله حول محورها امام الشمس، ويعبر عنها بالفتره الزمنيه بين شروقين متتاليين او بين غروبين متتاليين للشمس ويساوي( في زماننا) اربعا وعشرين ساعه كامله.
ويقال في العربيه:( من اول يوم) اي من اول ايام تاريخ محدد وقد يعبر بلفظ( اليوم) عن يوم محدد في السنه او في الشهر او في الاسبوع، وقد يعبر به عن الشده التي يمر بها الفرد او الجماعه من الناس وذلك مثل قولهم:( يوم كيوم عاد) او( يوم) من( ايام) الدهر، وقد يعبر به عن واقعه محدده في التاريخ ( كيوم الفتح), او ايام الاخره، او ايام الله التي لا يعرف مداها الا هو( سبحانه وتعالي). وقد يعبر( باليوم) عن مده من الزمان ايا كان طولها، او عن فتره من الفترات او مرحله من المراحل بغض النظر عن الزمن الذي استغرقته.
وقد استخدمت لفظه( يوم) في القران الكريم بهذه المعاني كلها.
(5) سواء. اي يعدل في الحكم بين الفرقاء,( فالسواء) العدل، وفعله( سوا)( يسوي)( تسويه) و(سواء) اي عدل; و(ساوي)( يساوي)( تسويه) اي عادل وتسويه الشيء جعله سواء، فالمساواه هي المعادله المعتبره في كل شيء; ويقال: قسم الشيء بينهما بالسويه اي بالعدل; و(سوي) و(سواء) الشيء وسطه او غيره، وتاتي بمعني العدل,( كما تاتي بالفتح والكسر والضم للسين; فاذا ضممت السين او كسرتها قصرت، واذا فتحتها مددت); يقال: مكانا( سوي) و(سوي) و(سواء) اي عدل ووسط; و(سواك) و(سواك) و(سوائك) اي غيرك.
يقال: هما في الامر( سواء) او( سواءان), وهم( سواء) او( اسواء) او( سواسيه).
ويقال:( استوي) الشيء بمعني اعتدل والاسم( السواء); و(السي) و(السوي) صفه لكل ما يصان من الافراط والتفريط من حيث القدر والكيفيه وجمعه( اسواء).
ومكان( سوي) و(سوي) و(سواء) بمعني وسط اي يستوي طرفاه.
اقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي):
قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعه ايام سواء للسائلين [ فصلت:10,9].
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: هذا انكار من الله تعالي علي المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، المقتدر علي كل شيء( قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا).. اي نظراء وامثالا تعبدونها معه,( ذلك رب العالمين) اي الخالق للاشياء هو رب العالمين كلهم، وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالي:( خلق السماوات والارض في سته ايام) ففصل ههنا ما يختص بالارض مما اختص بالسماء، فذكر انه خلق الارض اولا لانها كالاساس، والاصل ان يبدا بالاساس، ثم بعده بالسقف، كما قال عز وجل:( هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوي الي السماء فسواهن سبع سماوات) الايه، فاما قوله تعالي:( اانتم اشد خلقا ام السماء بناها) الي قوله:( والارض بعد ذلك دحاها اخرج منها ماءها ومرعاها), ففي هذه الايه ان دحو الارض كان بعد خلق السماء، فالدحو مفسر بقوله:( اخرج منها ماءها ومرعاها) وكان هذا بعد خلق السماء، فاما خلق الارض فقبل خلق السماء بالنص..., وخلق الارض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوي الي السماء فسواهن في يومين اخرين، ثم دحي الارض; ودحيها ان اخرج منها الماء والمرعي، وخلق الجبال والرمال والجماد والاكام، وما بينهما في يومين اخرين، فذلك قوله تعالي:( دحاها), وقوله:( خلق الارض في يومين) فخلق الارض وما فيها من شيء في اربعه ايام وخلق السماوات في يومين....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) ما نصه:( قل ائنكم) بتحقيق الهمزه الثانيه، وتسهيلها، وادخال الف بينهما بوجهيها وبين الاولي، وتركه( لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين)..( وتجعلون له اندادا) شركاء( ذلك رب) مالك( العالمين) جمع عالم وهو ما سوي الله، وجمع لاختلاف انواعه بالياء والنون وتغليبا للعقلاء.
(وجعل) مستانف ولايجوز عطفه علي صله( الذي) للفاصل الاجنبي( فيها رواسي) جبالا ثوابت تثبتها( من فوقها وبارك فيها) بكثرهالمياه والزروع والضروع( وقدر) قسم( فيها اقواتها)
للناس والبهائم( في) تمام( اربعه ايام) اي الجعل وما ذكر معه..( سواء) منصوب علي المصدر اي استوت الايام الاربعه استواء لاتزيد ولاتنقص( للسائلين) عن خلق الارض بما فيها..
وجاء في التعليق بالهامش مايلي:
قوله تعالي:( في يومين), ثم قوله بعد ذلك:( في اربعه ايام، ثم قوله:( فقضاهن سبع سماوات في يومين), هذا تفصيل لمثل قوله تعالي في سوره ق( ولقد خلقنا السماوات والارض ومابينهما في سته ايام ومامسنا من لغوب) اي: تعب واعياء، فتم خلق الارض وتقدير اقواتها في مقدار اربعه ايام، وتم خلق السماوات في مقدار يومين، كل ذلك بلا ترتيب زمني، لان( ثم) في مثل قوله تعالي:( ثم استوي الي السماء وهي دخان) لاتفيد في حق الله تعالي ترتيبا زمنيا، لانه تعالي لايجري عليه زمان، فكان خلق السماوات والارض وما بينهما في مقدار سته ايام من غير تحديد ولاتعيين علي الصحيح....
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمه واسعه) مانصه:... انه يذكر حقيقه خلق الارض في يومين، ثم يعقب عليها قبل عرض بقيه قصه الارض، يعقب علي الحلقه الاولي من قصه الارض,( ذلك رب العالمين).. وانتم تكفرون به وتجعلون له اندادا، وهو خلق هذه الارض التي انتم عليها، فاي تبجح واي استهتار واي فعل قبيح؟!
وما هذه الايام: الاثنان اللذان خلق فيهما الارض، والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الاقوات، واحل فيها البركه، فتمت بهما الايام الاربعه؟
انها بلا شك ايام من ايام الله التي يعلم هو مداها، وليست من ايام هذه الارض.. والايام التي خلقت فيها الارض اولا، ثم تكونت فيها الجبال، وقدرت فيها الاقوات، هي ايام اخري، مقيسه بمقياس اخر، لانعلمه، ولكننا نعرف انه اطول بكثير من ايام الارض المعروفه.
واقرب مانستطيع تصوره وفق ما وصل اليه علمنا البشري انها هي الازمان التي مرت بها الارض طورا بعد طور، حتي استقرت وصلبت قشرتها واصبحت صالحه للحياه التي نعلمها....
وبارك فيها وقدر فيها اقواتها.. وقد كانت هذه الفقره تنقل الي اذهان اسالفنا صوره الزرع النامي في هذه الارض وبعض ما خباه الله في جوف الارض من معادن نافعه كالذهب والفضه والحديد وما اليها.. فاما اليوم بعد ماكشف الله للانسان اشياء كثيره من بركته في الارض ومن اقواتها التي خزنها فيها علي ازمان طويله، فان مدلول هذه الفقره يتضاعف في اذهاننا..
وجاء في صفوه البيان لمعاني القران( علي كاتبه من الله الرضوان) مانصه:
(قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين) اي اوجدها في مقدار يومين من ايام الدنيا. وقيل: اليوم منهما كالف سنه من ايامنا.
والايه تنديد بالمشركين، لتماديهم في الشرك مع ظهور الدلائل الموجبه للايمان بوحدانيته تعالي وكمال قدرته.( اندادا) امثالا من مخلوقاته تعبدونها.( وجعل فيها رواسي) جبالا ثوابت( من فوقها) لئلا تميد وتضطرب( وبارك فيها) جعلها مباركه قابله للخير، كالانبات واخراج ماينفع الناس.( وقدر فيها اقواتها) جعل اقوات اهلها التي يحتاجون اليها في معايشهم علي مقادير معينه، بحيث جعل في كل قطر مايناسب اهله، ليكون الناس محتاجا بعضهم الي بعض فيما يرتفقون به. وهو سبب عماره الارض ونظام العالم.( في اربعه ايام) اي خلق ما في الارض في تمام اربعه ايام( سواء) مستويه كامله. مصدر موكد لمضمر هو صفه ل ايام، اي استوت سواء اي استواء، وقيدت به لدفع توهم التجوز باطلاقها علي ما دونها بقليل( للسائلين) اي قدر فيها اقواتها لاجل الطالبين لها، المحتاجين اليها من المقتاتين. فمده خلق كل من الارض وما فيها مقدار يومين. وتمام المدتين اربعه ايام كامله.
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم جزاهم الله خيرا مانصه قل ايها الرسول لهولاء المشركين: عجبا لكم! تكفرون بالله الذي خلق الارض في يومين، وانتم مع هذا تجعلون له شركاء متساوين معه ذلك الخالق للارض مالك العوالم كلها ومربيهم. وجعل في الارض جبالا ثابته من فوقها لئلا تميد بكم، واكثر فيها الخير وقدر فيها ارزاق اهلها، حسبما تقتضيه حكمته، كل ذلك في يومين، وانتم مع هذا تجعلون له شركاء، وقدر كل شئ لانقص فيه ولازياده، هذا التفصيل في خلق الارض وما عليها بيان للسائلين.
وجاء في التعليق الهامشي مايلي: وحدات الزمن التي يستخدمها الناس مرتبطه بالارض ودورانها حول محورها وحول الشمس، فاذا ما غادر احد الارض الي جرم سماوي اختلفت هذه الوحدات طولا او قصرا. والايات الكريمه تشير الي هذه الحقيقه والي ان الزمن نسبي..
وذكر صاحب صفوه التفاسير( جزاه الله خيرا) مانصه:( قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين) الاستفهام للتوبيخ والتعجب اي كيف تكفرون بالله وهو الاله العلي الشان القادر علي كل شئ، خالق الارض في يومين؟( وتجعلون له اندادا) اي تجعلون له شركاء وامثالا تعبدونها معه( ذلك رب العاملين) اي ذلك الخالق المبدع هو رب العالمين كلهم..( وجعل فيها رواسي من فوقها) اي جعل في الارض جبالا ثوابت لئلا تميد بالبشر( وبارك فيها) اي اكثر خيرها بما جعل فيها من المياه والزرع والضروع( وقدر فيها اقواتها) اي قدر ارزاق اهلها ومعاشهم قال مجاهد: خلق فيها انهارها واشجارها ودوابها( في اربعه ايام سواء للسائلين) اي في تمام اربعه ايام كامله مستويه بلا زياده ولانقصان للسائلين عن مده خلق الارض وما فيها...
ايام الخلق الست في منظور العلوم الكونيه
يري اهل العلوم المكتسبه مراحل خلق الكون الست حسب الترتيب التالي والله( تعالي) اعلم بخلقه:
(1) مرحله الرتق: وهي مرحله الجرم الاولي الذي بدا منه خلق السماوات والارض
(2) مرحله الفتق: وهي مرحله انفجار الجرم الاولي وتحوله الي سحابه من الدخان
(3) مرحله تخلق العناصر في السماء الدخانيه عبر تكون نويات غازي الايدروجين والهيليوم وبعض نويات الليثيوم.
(4) تخلق كل من الارض وباقي اجرام السماء بانفصال دوامات من السحابه الدخانيه الاولي وتكثفها علي ذاتها بفعل الجاذبيه، وانزال الحديد عليها.
(5) مرحله دحو الارض وتكوين اغلفتها الغازيه والمائيه والصخريه، وتصدع الغلاف الصخري للارض، وبدء تحرك الواحه، وتكون كل من القارات وقيعان المحيطات، والجبال، وبدء دورات كل من الماء، والصخور، وتبادل القارات والمحيطات، وشق الاوديه والفجاج والسبل، والتعريه، وتسويه سطح الارض، وتكون التربه، وخزن المياه تحت السطحيه.
(6) مرحله خلق الحياه من ابسط صورها الي خلق الانسان
ويقدر عمر الكون بما يتراوح بين10 و15 بليون سنه بينما يقدر عمر اقدم صخور الارض بنحو4.6 بليون سنه وهو نفس العمر الذي تم التوصل اليه بتحليل صخور وتراب سطح القمر والعديد من النيازك التي سقطت علي الارض والفارق الكبير بين العمرين المقدرين لكل من الارض والسماء( وقد خلقا في لحظه واحده) سببه ان صخور الارض تدخل في دورات عديده، وان العمر المقدر لها هو عمر لحظه تيبس قشرتها، وليس عمر تكون ذرات عناصرها، وعمر تيبس قشره الارض لا يشمل ايا من مراحل الارض الابتدائيه، ولا مراحل تخلق العناصر التي كونت ارضنا الابتدائيه وماتلا ذلك من احداث.
وتشير الايات القرانيه(29) من سوره البقره، و(9 12) من سوره فصلت الي سبق خلق الارض لعمليه تسويه السماء الدخانيه الاوليه الي سبع سماوات، ويبدو ان المقصود هنا بالسبق هو خلق عناصر الارض، والذي تلاه تجميع تلك العناصر علي هيئه الارض الابتدائيه والتي تم رجمها بوابل من النيازك الحديديه، وتمايزها الي سبع ارضين، ثم دحوها وتكوين اغلفتها الغازيه والمائيه والصخريه وتشكيلها الي صورتها الحاليه وذلك لان خلق السماوات والارض عمليتان متلازمتان ولايمكن لاحداهما ان تنفصل عن الاخري.
تقدير اقوات الارض في منظور العلوم الكونيه
الارض هي ثالث الكواكب بعدا عن الشمس وهي تجري حول هذا النجم في فلك بيضاني قليل الاستطاله( اهليلجي) بسرعه تقدر بنحو30 كيلو مترا في الثانيه لتتم دورتها هذه في سنه شمسيه مقدارها365.25 يوم تقريبا، وتدور حول نفسها بسرعه مقدارها نحو30 كيلومترا في الدقيقه، لتتم دورتها هذه في يوم مقداره24 ساعه تقريبا، يتقاسمه ليل ونهار بتفاوت يزيد وينقص حسب الفصول التي تتبادل بسبب ميل محور دوران الارض علي دائره البروج بزاويه مقدارها66.5 درجه تقريبا، ويعزي للسبب نفسه هبوب الرياح، وهطول الامطار، وفيضان الانهار، وتتابع الدورات الزراعيه.
ويقدر متوسط المسافه بين الارض والشمس بنحو150 مليون كيلو متر وهذه المسافه التي حددتها كتله الارض بتقدير من الخالق( سبحانه وتعالي) تلعب دورا مهما في تقدير الاقوات في الارض وذلك لان كميه الطاقه التي تصل من الشمس الي كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس، وكذلك تتناسب سرعه جريه في مداره حولها، والشمس هي المصدر الوحيد لجميع صور الطاقه الارضيه ومن هنا تتضح الحكمه البالغه من تحديد كل من كتله الارض ومتوسط بعدها عن الشمس، فقد قدرت الطاقه التي تشعها الشمس من كل سنتيمتر مربع علي سطحها بنحو عشره احصنه ميكانيكيه يصل الي الارض منها جزء من بليوني جزء من هذه الطاقه الهائله التي تشكل مصدرا مهما من مصادر اقوات الارض بالقدر المناسب لنوعيه الحياه الارضيه.
فلو كانت الارض اقرب قليلا الي الشمس لكانت كميه الطاقه التي تصلها محرقه لجميع صور الحياه علي سطحها ومبخره لمياهها ومخلخله لغلافها الغازي، ولو كانت ابعد قليلا لتجمدت مياهها ولتوقفت الحياه علي سطحها. ويتربط ببعد الارض عن الشمس بقيه ابعاد هذا الكوكب، ويقدر حجم الارض بنحو مليون كيلو متر مكعب، ومتوسط كثافتها بنحو5.52 جم/سم3, وعلي ذلك تقدر كتلتها بنحو سته الاف مليون مليون مليون طن، وهذه الابعاد قد حددها ربنا( تبارك وتعالي) بدقه بالغه، فلو كانت اكبر قليلا او اصغر قليلا ما كانت صالحه للحياه الارضيه.
وللارض مجال جاذبيه مكنها من الاحتفاظ بغلافها الغازي، ولو فقدته ولو جزئيا لاستحالت الحياه علي الارض، وقد بدات الارض بكومه من الرماد ثم رجمت بوابل من النيازك الحديديه( والتي تحتوي العناصر من الحديد الي اعلي العناصر وزنا ذريا) والنيازك الحديديه الصخريه والصخريه، والتي لاتزال تصل الي الارض بملايين الاطنان سنويا، وهذه العناصر وانزالها الي الارض باقدار معلومه من تقدير الاقوات فيها.
ثم مرت الارض بمرحله الدحو وهو اخراج كل من اغلفتها المائيه والهوائيه والصخريه، وغمرتها المياه بالكامل.
وبدات عمليه الدحو بتصدع الغلاف الصخري للارض واندفاع الصهاره الصخريه بملايين الاطنان عبر تلك الصدوع، وعبر فوهات البراكين، ومن ثم بدات عمليه تحرك الواح الغلاف الصخري للارض والتي نتج عنها تكون الجزر البركانيه في وسط ذلك المحيط الغامر، ثم اخذت تلك الجزر البركانيه في التدافع تجاه بعضها البعض لتكون اليابسه بسلاسلها الجبليه الناتجه عن تصادم تلك الالواح الصخريه وبدات دوره التعريه تفتت صخور الارض لتكون التربه، وبدات دورات الصخور، والمياه، وتكون القارات وتفتتها حتي اصبحت الارض مهياه لاستقبال الحياه.
وبما ان عمر اقدم صخور الارض يقدر بنحو4.600 مليون سنه، وان اقدم اثر للحياه الارضيه يقدر عمره بنحو3.800 مليون سنه، فان اعداد الارض لاستقبال الحياه قد استغرق مالايقل عن ثمانمائه مليون سنه.
وقد خلق الله تعالي الحياه الباكره في مياه البحار والمحيطات لانها كانت الوسط المليء بالاملاح المذابه التي حملتها الامطار والسيول والانهار من اليابسه الي قيعان البحار والمحيطات، وفي هذه الاثناء كانت صخور الارض تفتت لتكوين التربه، وكانت مياه الامطار تختزن فيها في تهيئه حكيمه لاستقبال الحياه الارضيه.
ومن حكمه الله البالغه في الخلق ان النبات كان سابقا في وجوده علي الحيوان لان الله( تعالي) قد اعطاه القدره علي صناعه غذائه بعمليه التمثيل الضوئي مستفيدا من طاقه الشمس وغازات الجو ومياه ومعادن الارض، اما الحيوان فيعتمد في غذائه علي النبات او علي افتراس غيره من الحيوان اذا كانت له القدره علي ذلك.
واقدم اثر للحياه علي اليابسه لايتعدي عمره450 مليون سنه وقد بدا بالنباتات الارضيه التي عمرت الارض وسادت سياده هائله مما ساعد علي تكوين راقات الفحم من بقاياها في عصر سمي باسم عصر الفحم وامتد الي نحو300 مليون سنه مضت، واستمرت الحياه الارضيه في الازدهار حتي اكتملت بخلق الملايين من انواع الحياه النباتيه والحيوانيه، ولعب كل نوع منها دورا مهما في استقبال المراحل التاليه عليه، كما لعبت بقاياها دورا اهم في تكوين النفط والغاز، ولعبت عوامل التعريه والحركات البانيه للجبال دورها في تمهيد الارض وتهيئتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم المعروف باسم الانسان، والذي لا يكاد اقدم اثر له علي الارض يتعدي المائه الف من السنين.
فسبحان الذي خلق الاكوان، ومنها الارض، وهياها لاستقبال هذا المخلوق المكرم بهذه المراحل المتطاوله وهو القادر علي ان يقول للشيء كن فيكون.
وسبحان الذي بارك الارض، وقدر فيها اقواتها في اربع مراحل متتاليه: هي الرتق، الفتق، الدحو، وارساء الجبال فقال( عز من قائل) معاتبا الكافرين والمشركين من عباده: قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعه ايام سواء للسائلين* (فصلت:10,9)
إرسال تعليق